Saturday, February 15, 2014

عيدي أمين: الرجل الذي أكل خصمه






نشر هذا المقال بموقع قل

قليلون في هذا العالم من استحقوا لقب "سفاح دموي". أغلبهم استخدم وسائل اعتيادية في القتل، لكن نخبة صغيرة جداً هي من أضافت بعداً جديداً لجرائمها، بُعد يستحق أن تقف عنده و تتأمل في مزاعم الجنس البشري عما  وصل إليه من "إنسانية". منهم من رمى خصومه السياسيين من الهليكوبتر في أعماق نهر بعد تقييدهم  بالحبال ومنهم من أذابهم في الحمض ومنهم من أعدمهم باستخدام قذائف الهاون. رجلنا اليوم واحد من هذا الطراز النادر، أستحق مقعده وسط أباطرة الدم بأكل خصومه. عزيزي القاريء، لا أستخدم هنا نوع من أنواع المجاز، فالرجل وفقاً لكثير من الروايات المتواترة، مارس طهي و أكل لحوم البشر عدة مرات إنتقاماً ممن رآهم خطرعلي البلاد و طلباً لقدرات سحرية وفقا لتقاليد أفريقية قديمة. موضوع هذا المقال هو الجنرال الدكتور الرئيس الأبدي للبلاد، بطل أوغندا لملاكمة الوزن الثقيل، الحاج عيدي أمين.

إذا تجاهلنا طريقته الفريدة في إنهاء خلافاته و أشحنا بوجهنا عن صور الجماجم في المقابر الجماعية و الجثث المصلوبة و المقطعة، و تناسينا حقيقة أن الرجل قتل حوالي 5% من إجمالي السكان، لا يسعنا إلا الإعتراف بتمتع "ديدي" بخصلة انعدمت عن سائر دكتاتوري العالم، خفة الظل!
 
في منفاه الأخير سأله مراسل النيوز ويك إن كان قد مارس عادة أكل لحوم البشر، كان الجواب عفوياً: كلا. ,انها مالحة جدًا!
 الحقيقة أن حس الفكاهة كان طبعاً أصيلاً في الرجل. أرسل مرة برقية لملكة بريطانيا يقول نصها: "عزيزتي إلز، إن كنتي تريدين مقابلة رجل حقيقي، تعالي الي عنتيبي"!
حتى في أحلك المواقف، عندما ساءت علاقاته بأمريكا بعد فرض العقوبات عليه في أواخر عهده، خرج علي الهواء و طلب من الرئيس الأمريكي منازلته رجل لرجل في مباراة ملاكمة بدلا من تجويع الشعب الأوغندي. في مرة أخري تهكم علي الرئيس التنزاني علي الهواء قائلاً: "إن ملامحه وسيمة جداً، لو كان أنثي لتزوجته!"، الطريف أن مزحته تلك كلفته منصبه.
تبنت تنزانيا المعارضة و سلحتها، و بعد أقل من سنة غادر الرئيس الأبدي أوغندا في طائرته مع زوجاته الأربعة و عشرين من أطفاله بالإضافة إلي ثلاثين من عشيقاته إلي ليبيا و هو يراقب القوات التنزانية و المتمردون يقتحمون عاصمته.

تحديد لحظة إشراق  دكتاتورنا لم تكن مسألة سهلة. بمراجعة  تاريخه السياسي الذي بدأ بتوليه قيادة القوات الجوية في منتصف الستينات حتى أواخر السعبينات، ثم تغريبته في ليبيا و العراق انتهاءاً بالسعودية،  ستكتشف الكثير من اللحظات المفصلية. من تنفيذه للإنقلاب العسكري لصالح رئيس الوزراء ضد الملك  إلي استباقه لخطة رئيسه السابق في الفتك به في يناير 71، مروراً بالمصالحة الوطنية التي تراجع عنها سريعاً و لحظة البدأ في المذابح العرقية و انتهاءاً بتهليل الجموع له لتأميمه أملاك نصف مليون أوغندي من أصول هندية و طردهم بدعوي الحفاظ علي هوية البلاد ثم  تخلصه من كبار وزراؤه و إغتياله للأسقف الأكبر. وأخيراً، وبعد ساعات  من التجول علي الإنترنت عثرت علي ضالتي في صورتي هذا المقال..

في الصورة الأولى نشاهد مجموعة من السفراء الغربيين ينحنون علي قدم واحدة أمام الفحل الأفريقي ويأدون اليمين البروتوكولي، أما الصورة الثانية فهي لمجموعة من الرجال البيض مجهولي الهوية يحملونه في هودج و هو منشغل بتحية الجماهير السوداء.
الصورتان تحتويان علي رمزية شديدة تلخص قصة أفريقيا و الرجل الأسود عندما يحكم بعد عقود من الإحتلال. في الصورة الثانية يبدو أمين كطفل عملاق قارة الطول، بهيجاً مبتهجاً، يحب الكاميرا و تحبه، سعيداً بكونه مركز الإهتمام، عاشقاً للفكاهة يمارس الحياة كأنها لعبة. لكن للصورة أيضا جانب خفي: ستشعر، بلا سبب ملموس، بعدم الراحة من طريقته في تحية الجمهور. شيء خفي يوحي بإحساس بالعظمة و يقين بإمتلاكه كل ما ومن حوله وبحقه في أن يفعل بهم ما يشاء.. أما الصورة الأولي فيبدو فيها متجهماً شديد البأس، لكنك ستلمح في جانب وجهه ابتسامة فخر يحاول إخفائها. فخر بقدرته علي إخضاع كل هؤلاء الـ"Gentlemen" البيض بسطوته. تستشف من وقفة معاونه التوتر و الحرص على عدم الخطأ.

في كل الأحوال تعطينا صوره إنطباعاً عن رجل مهووس بالـ "Role playing games أو لعبة التقمص"، و الأمر متروك لخيالكم بخصوص شطحاتة الفانتازية في السرير، شخص يمكن أن يتحول إلي طفل مدمر إذا دهس أحدهم الزر الخاطيء. إنسان لن تحب تركه لخياله بخصوص معاقبتك إن أحس بتقصيرك.

يظهر لنا من جودة الصورة أنها تعود إلي النصف الأول من السبعينات، وقتما كان الرئيس مازال شريكاً للموساد في تهريب الأسلحة الي جنوب السودان. عندما غضت المخابرات البريطانية طرفها عن نيته الإنقلابية. وقتها لم تجد الدول الغربية سبباً لإثارة المشاكل معه بسبب تأميمه بعض ممتلكات الأقليات و قيام قواته بالقليل من الإنتهاكات. الصفقة بسيطة: سنتركه يمارس عقده النفسية و ألعابه الصبيانية طالما سيضمن هذا استمرار المصالح العليا.

في لحظات مثل تلك يولد أعتى الطغاة. السلطة المطلقة على البلاد، الإمتلاك الحصري للسلاح الثقيل، الميديا الهادرة التي تغذي الأنا، المصالح الدولية التي تحتم إدارة الرأس عن الفساد أو إنتهاكات حقوق الأنسان، التأييد الشعبي الغير مشروط من جماهير تخلت عن كل حقوقها لأنها واقعة في غرام دكتاتور واقع في غرام نفسه. لحظات مثل تلك تبدو مرعبة و ثقيلة الوطأة، لأنك تعرف أنها ستقود الي مستقبل كارثي. لكنها أيضا لا تخلو من لمحة عبثية من الكوميديا السوداء، لمحة على المرء أن يلتقطها و يتعلق بها ليستطيع إبتلاع ما يحدث.

بعدما انطفأ نجمه عاش الحاج عيدي في فيلا مع زوجاته و أولاده حياة هادئة بجدة كأي سعودي ميسور الحال لأكثر من عقدان بفضل علاقته بالملك فيصل و من خلفه علي العرش. علاقة كان قوامها موقعه كحامي  للأقلية المسلمة في أوغندا ووعود متكررة بغزو إسرائيل. هناك مارس هوايتة في التقمص فلعب دور الورع الزاهد في الحياة.
بعد 7 سنوات من وفاتة وصل الي نفس المدينة أول دكتاتور أطاح به الربيع العربي.
أظن علي بلدية المدينة الساحلية تدشين حملة إعلانية جديدة يكون نصها:
       -
إلي أين يذهب الدكتاتور بعد إحالته للتقاعد؟
      - "
جدة طبعاً..جدة غير!".

No comments:

Post a Comment