Thursday, October 2, 2014

الكومباوند الشعبي




نشر هذا المقال بموقع قل.برحاء متابعة القراءة هنا

في أحد المباني القديمة بوسط العاصمة التشيكية براغ يستقر ملصق إعلاني لبنك شهير الملصق عبارة عن مجموعة من السلافيين ويظهر أبو الهول خلفهم ، النص يحكي حكاية تتعلق بمرور تلك القوات بمصر خلال الحرب العالمية الأولى التي يحتفل العالم هذه الأيام بالذكرى المئوية لبدء أحداثها التي غيرت تاريخ الإنسانية والمنطقة، وحتى حياتنا اليومية التي نعيشها الآن، وبرغم أنها موضع تغطية شبه يومية في كل الميديا عالمية، فإنها هنا لا تحوز على أي اهتمام وسط هذيان السياسة الداخلية اليومي. 

حتى نفهم ماذا حدث في "الحرب الكبرى" وما أنتجته، لابد أن نفهم أولًا  شكل العالم سنة 1914. مبدئيًا عليك نسيان كل ما تعرفة عن خريطة العالم اليوم. تقريبًا نصف الدول التي تأهلت لآخر 4 كئوس عالم لم تكن موجودة وقتها. ودول بحجم ألمانيا وأيطاليا كانت حديثة التكوين ويطلق البعض عليها مصطلح "دول مصطنعة". القوى الكبرى كلها، باستثناء فرنسا والولايات المتحدة، كان يحكمها قيصر أو سلطان أو إمبراطور أو على أقل تقدير، ملك. 

المنطقة الأكثر اشتعالا في العالم كانت البلقان، التي كانت بجوار 3 إمبراطوريات كبري: من شمال الشرق (أعلى الخريطة) روسيا، حامية المسيحية الأرثوذوكسية بقيادة قياصرة الرومانوف، وفي جنوب الشرق (أسفلها) رجل أوروبا المريض: السلطنة العثمانية، ومن الغرب (اليسار) الإمبراطورية المجرية النمساوية، القوى الثلاث تبادلت احتلال المنطقة في عمليات تباديل وتوافيق استمرت 500 عام تقريبًا، خلال تلك السنوات نشأت تجمعات لأقليات عرقية ودينية في كل البلدان، على سبيل المثال تكونت جالية يونانية في تركيا، وتركية في رومانيا، وصربية في البوسنة، وبوسنية في كرواتيا، وهكذا.. 

في الوقت نفسه كان الكثير من القوميين الصرب يحلموا بـ"يوغوسلافيا الكبرى" على مساحة تمتد من كرواتيا إلى مقدونيا، وفي سبيل هذا قررت منظمة سرية تؤمن بهذه الأفكار تدعى "اليد السوداء" اغتيال ولي عهد الإمبراطورية المجرية النمساوية أثناء زيارته للبوسنة الخاضعة لسيطرته، ولي العهد كان في طريقه ليصبح الإمبراطور بعد مرض وكبر سن الإمبراطور الحاكم وقتها. والله وحدة يعلم ماذا سيكون الحال لو كان الأرشيدوق "فرانس فيردناند" قد نجا وحاز على اللقب، فكل الدلالات تقول إنه كان إصلاحيًا ويخطط لتقليص صلاحيات منصبه ويحلم بأوروبا على الطراز الأمريكي!!

هذا العصر كان عصر الاغتيالات الفاشلة والمضحكة بحق (كما سنعرف في المقال المقبل عندما يأتي على ذكر محاولات اغتيال سلطان مصر حسين كامل)، حادث اغتيال الأرشيدوق في البوسنة لم تكن استثناءً! فالمحاولة الحقيقية فشلت وقُبِض على أحد المنفذين، أما الأمير فأمر السائق بالتحرك إلى المستشفي لزيارة جنوده المصابين من جراء العملية، لكن السائق الذي لم يكن يعرف المدينة جيدًا سار في شارع خطأ، وفجأة وجد المنفذ الثاني نفسه على مسافة 5 أمتار من الأرشيدوق الذي أصبح الآن بعيدا عن حراسة، وفعلًا، بضغطتي زناد، كان الرجل وزوجتة مقتولين!

ألقي القبض على المنفذ واعترف بتفاصيل المؤامرة فورًا، عقب الاغتيال أرسلت الإمبراطورية المجرية النمساوية لملك صربيا التي كانت تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي، رسالة شديدة اللهجة ومليئة بالطلبات، وافق الملك على كل ما فيها حقنا للدماء، باستثناء دخول محققين أجانب لمملكته، تزامن مع هذا بدء حملات اعتقالات عشوائية ومحاكمات صورية وإعدامات ميدانية للأقلية الصربية في كل الدول الخاضعة للنمساويين، تشاركت قوات الجيش مع ميليشيات مسلحة بوسنية/مسلمة موالية اسمها "قوات الحماية" (Schutzkorps) في تنفيذ تلك الفظائع. 

عبر أوروبا انتشرت المكاتبات الرسمية بين القوى الكبرى التي كانت تدرك قواعد اللعبة جيدًا: نستطيع دومًا الشجار حول المستعمرات وراء البحار، لكن الدخول في مواجهة مباشرة داخل حدود القارة هو الحمق بعينه! المشكلة كانت في ألمانيا وأنجلترا، فالأولى استيقظت متأخرة وتتضور جوعا لـ"المجد"، إذ يتوق القصير الكاريزماتي فيلهلم الثاني إلى فرصة لتوسيع إمبراطوريته الوليدة في أفريقيا وجزر المحيطات، أما الثانية فكانت تؤمن بسياسة وأد أي منافس محتمل على أراضي ما وراء البحار، ألمانيا في هذه الحالة، وتريد الاستيلاء على أملاكها في أفريقيا.

ألمانيا حليفة الإمبراطورية المجرية، كانت الطرف الأكثر حماسًا للحرب، ما جرَّ كل الدول إلى الحرب بمنطق الضربة الاستباقية، ومازال الجميع يتساءل إلى اليوم: لماذا بدأت الحرب؟!

في غضون 30 يوما كانت الأمور قد خرجت عن السيطرة، النمساويون هاجموا صربيا وبدأت معارك طاحنة، روسيا، حليفة صربيا، وفرنسا، حشدتا قواتهما على الحدود الشرقية والغربية لأراضي فيلهلم الثاني. المشكلة الحقيقية أن أحدًا لم يتخيل مغبة ما يفعله: ففي يونيو 1914 كانت أفكار تمجيد الحرب والمحاربين مازالت تملأ عقول الأغلبية الساحقة من أهل الأرض، ملايين المتحمسين من البسطاء تطوعوا لدرجة ان اطفال في عمر 12 سنة تم قبولهم. بالتوازي مع هذا كان العالم قد وصل لتقنيات تسلح متقدمة وغير مسبوقة ولم تجرب قط في حرب فعلية. وهنا كانت الكارثة، تخيل أنها المرة الأولى التي تنزل فيها الدبابات والطائرات والغواصات والسفن البخارية إلى ساحة المعارك الكبرى، وأنها أول تجربة واسعه للسلاح الكيماوي. في نفس الوقت كانت الأساليب التقليدية مازالت مستخدمة في سلاح المشاة. لذا حمل الجنود مدافع من عصر نابليون على الخيول، وساروا جنبًا إلى جنب مع المركبات الحديثة، عبث من الطراز الرفيع!

لمدة 4 سنوات دارت حرب كئيبة بطيئة وعنيفة، ليس فقط في أوروبا، بل في أجزاء واسعة من أفريقيا وآسيا وجزر المحيطات. وبهذا استحقت تلك الحرب لقب "الحرب الكبرى". الملايين تجمدوا واحترقوا في الخنادق المليئة بالثلوج أو الرمال الملتهبة وملأت أجسامهم بأمراض وأوبئة. منهم من فقد أطرافه بسبب التلوث وقضمه الصقيع. النتيجة النهائية كانت 15 مليون ضحية من الطرفين، إلى جانب عدد غير معلوم من المعاقين والأيتام والأرامل والمهجرين. وبالطبع دسته معاهدات غيرت العالم إلى الأبد!

ما لم يكن يعرفه قادة الدولة المتحاربة هو أن الدولة العثمانية مرتبطة بمعاهدة تعاون عسكري سرية مع الألمان، وبالتالي دخلت الحرب، من ناحية بدافع احترام معاهداتهم ومن ناحية ثانية بدافع رغبتهم في الانتقام من روسيا الأرثوذوكية التي تساعد الأرمن على الانفصال المسلح، ومن إنجلترا التي تسحب منها البساط في الشرق الأوسط. 

وقتها، كان الوضع في مصر فريدًا ومعقدًا. الإنجليز هم الحاكم الفعلي للبلاد بعد احتلالهم لها عام 1882، لكن رسميًا، كانت أسرة محمد علي هي الأسرة الحاكمة وتدين بولاء اسمي للسلطان العثماني. ومن هنا كان دخول مصر إلى ساحة الحرب، وهو موضوع المقال المقبل.