Sunday, December 14, 2014

عندما حاربت الخيول بجوار الدبابات 2



نشر هذا المقال بموقع قل.برحاء متابعة القراءة هنا

أمتازت السنوات الاولي من  القرن ال20 بحوادث الأغتيال الفاشلة و المضحكة ، مصر لم تكن أستثناء .فأثناء زيارة الخديوي عباس حلمي لفرنسا تعرض لمحاولة نجا منها بسبب كيس نقوده المعدنية، أستغل الأنجليز فرصة غيابه وعزلوه خوفا من ولاءه  للخلافة العثمانية التي كانت لا تزال تحظي بسلطة أسمية علي البلاد و عينوا عمة حسين كامل الموالي لهم كسلطان ، الحاكم الجديد  بدوره تعرض لمحاولة لا تقل كوميدية عندما تظاهر شخص باعطائه باقة ورود وأخرج منها مسدس فشل في أستخدامه!!!

السؤال المنطقي الذي سيدور بخلد القاريء هو:كيف دبر نفس الشعب محاولتي أغتيال لحاكمين علي طرفي المقص السياسي؟

علينا الا ننسي أن مصر وقتها كانت في مرحلة أنتقالية من تاريخها، صحيح ان الكتير من المصريين كانوا شاعرين بالإهانة   من الإحتلال الانجليزي لكن العديد من التيارات سياسية كانت تطمح لديموقراطية علي النمط الأوروبي، في المقابل كانت الأغلبية لا تعتبر العثمانيين محتلين  لأنهم  في نهاية المطاف  رأس الخلافة الجامعه للمسلمين، كانت تلك بداية  تبلور فكرة "مصر" كوطن مستقل بذاته، و للمرة الأولي يدخل الشيوعيين و الليبراليين و القوميين المصريين في حوار مجتمعي واسع  يهتم بة العامة،الصراع كان له وجه اجتماعي أيضا، مثلا صدرت مجلة  "السفور" التي دعت للمساواة بين الجنسين و طالبت بحصول المرأة علي حقها في المشاركة السياسية و التي واجهها  الشيخ رشيد رضا بحملة ضارية في مجلة "المنار" ضد الحكومة التي تلقي بتراثها لصالح التغريب، في كل الأحوال اتفق أغلب الاطراف المتنازعة علي أخذ موقف سلبي من الأحتلال، لكن العوز المادي أجبر ربع مليون مصري علي العمل المدني مع  الجيش الانجليزي!!

في  تركيا كان السلطان  العثماني ألعوبة في يد أنور باشا وزير الحربية صاحب العلاقات القوية بألمانيا، ولذا أعلنت تركيا الجهاد المقدس لمناصرة "الحاج" فيلهم الثاني ضد الكفار الروس و الانجليز، علي الفور  فتحت جبهتين، الاولي في القوقاز ووسط اسيا تورط فيها الروس و الأرمن والفرس و الأذربجانيين و حتي الأكراد وكان أحد نتائجها هولوكوست  طال عالأقل  مليون أرميني اعزل،والثانية في الشرق الأوسط، في فبراير 1915 تحركت قوات الدولة السنية من فلسطين الي قناة السويس  حيث دارت معارك  طاحنة انتصر فيها الانجليز لتتحول سيناء وغزة لمدة 3 سنوات لساحة حرب بين الطرفين، المعارك في مصر كانت مجرد مشهد ثانوي في لوحة الحرب التي روج لها انها ستنهي كل الحروب، لكنها في الحقيقة كانت الحرب التي جسدت غباء و رعونة  كل القادة العسكريين و السياسيين الذين تنافسوا في اتخاذ القرارات الكارثية!!!

منذ 100 عام  ,و تحديدا في صيف 1914, تطورت الأمور بعبثية شديدة لتنشأ الحرب العالمية الأولي الي شرحنا ظروف قيامها في المقال الماضي، بعد غزو النمساويين لصربيا  قررت روسيا و فرنسا وضع 6 مليون جندي علي حدودهما المشتركة مع المانيا، بادرالألمان يغزو بلجيكا المحايدة لتطويق فرنسا حتي يتفرغوا لروسيا، استغرق الأمر منهم شهرين ليصلوا الي حدود باريس و أرتكبوا في طريقهم  جرائم ضد المدنيين  لا تقل عن جرائم اعدائهم  الانجليز و الفرنسيين  في المستعمرات ! أستغلت روسيا الفرصة و توغلت داخل المانيا الي أن أضطرت بدورها الي إرسال جزء من قواتها للجبهة الشرقية، هنا استغل الأنجليز الفرصة و أرسلوا  قواتهم عبر بحرالمانش، و في سبتمبر  دارت أحد أولي المعارك التي  أستخدمت  فيها الطائرات في التاريخ والتي انتهت بانسحاب الألمان  لعمق الأراضي الفرنسية، بعدها حفر الجميع  الاف الخنادق و زرعوا المناطق  الفاصلة بالألغام و بدأت حرب بطيئة و كئيبة و دموية.

الانجليز قوم عمليين، بسبب قلقهم  من المانيا التي  ستبتلع مستعمراتهم اذا قويت شوكتها, و بسبب طمعهم  في مستعمراتهاالأستراتيجية, أتفقوا مع أمبراطور اليابان علي غزو ميناء شانتونج الصيني حيث يتركز الأسطول الألماني، بالفعل تم الغزو وأستولت اليابان علي حقوق تجارة المانيا في الصين و تقاسمت مع استراليا التابعة للتاج البريطاني بقيه المستعمرات في المحيط، حدث ذلك رغم اعتراضات أمريكية علي العملية التي  عززت وضع اليابان في المحيط الهادي، بعد الغزو أنتشرت  الباخرات و الغواصات الالمانية في بحار العالم لتصطاد سفن الحلفاء، كان علي الأنجليز صد "الاشباح"، حرب تستحق ان يفرد لتفاصيلها العديد من أفلام المغامرات.ً.بعد 24 عاما,و من نفس القاعدة,هاجمت اليابان القاعدة البحرية "بيرل" و جرت الولايات المتحدة الي الحرب العالمية الثانية.

في غضون 4 أشهر كانت النار قد أنتشرت في العالم كلة، في سبتمبر,هاجم الانجليز المستعمرات الألمانية في افريقيا، انسحب الالمان تكتيكيا ثم بدأ 50 الف جندي تابع للجيش الألماني حرب عصابات علي مساحة 10 دول بين ضد ملايين من قوات الكومونويلث.دخل الحرب كل من الهنود والأفارقة، جند الهندوس حوالي مليون جندي آملين ان تحفظ  المملكة الجميل و تعطي الهند حكما ذاتيا بعد الانتصار، بالطبع لم يحدث ذلك,ليبرز غاندي ويقود حركة التحرر الهندية، اما الافارقة فتم  تجنيدهم في الجيشين اجباريا ليعملوا في ظروف غير انسانية، المستعمرات الفرنسية والانجليزية لم تكتف بذلك,بل شحنت حوالي مليون جندي افريقي الي  الجبهة الاوروبية مما ولد  الكثير من الغضب و المرارة في حلق ملايين أضطرت الي قتل  اخواتها في حرب لا يفهمون لماذا هم مجبرين علي خوضها، النتيجة النهائية كانت موت 20% من الأفارقة الذي شاركوا في الحرب.

تشتهر منطقتنا تاريخيا بالدسائس و المؤامرات، والحرب كانت فرصة لأشباع تلك الهواية، تبادل الانجليز والعثمانيين تأجيج الثورات في مناطق حكم الطرف الأخر، العثمانيين ساندوا الليبيين و سلطان دارفور، و في المقابل  سطع  نجم "لورانس بلاد العرب" الأستخباري البريطاني  الشهير في مساندة الثورة العربية الكبري الهادفة الي تأسيس خلافة أسلامية عربية علي أنقاض الأحتلال التركي بقيادة الشريف الحسين بن علي حاكم الحجاز، الثورة المسلحة في الشام والأردن و العراق و الجزيرة العربية انتهت بأستسلام  دمشق والعقبة، لكن الأنجليز كانوا وقعوا  سرا بالفعل أتفاقية  "سايكس بيكو" مع الفرنسيين و التي تقسم المنطقة  بينهم  مع منح  فلسطيين كوطن قومي لليهود(وعد بلفور)، و هكذا انتهي حلم الشريف في الخلافة  بطردة من الحجاز علي ايد السعود و تنصيبة ملكا علي الأردن.الطريف ان منظري الناصرية لعنوا ساكس بيكو في زمنهم  ثم جذبهم الحنين اليها اليوم عندما بدأ  الأسلام السياسي و الراديكالي في توحيد  كل الأراضي التي قسمها الأوروبيين! 

في سنة 1916 سيطر الليبيين علي السلوم وحاصروا مرسي مطروح بمساعدة الغواصات الألمانية، مما أدي الي إعلان أنجلترا الأحكام العرفية، السبب الثاني للأعلان هو العمل السري المسلح ضد السلطان ووزراءه والمواليين لها، توفي السلطان المسن في السنة التالية ورفض ابنه كمال الدين حسين العرش ليتولي  الملك فؤاد الحكم في ظروف ضاغطة، حفيد الخديوي أسماعيل لم يكن يتقن العربية، فهو من مواليد ايطاليا التي خدم في جيشها ، معدلات الانفلات الأمني كانت قد  وصلت لأرقام كارثية  بالتوازي مع أنتشار البغاء في الأزبكية المليئة بالجنود الأنجليز المشتاقين لللهو، غير انتشار الكوليرا و التيفود بسبب فئران سفن الحرب و اللاجئين الي ملئت المواني.

لكن صدق او لا تصدق, الوضع كان مازال جيدا مقارنة بأوروبا!!!.فهناك ,و بعد بداية ساخنة وهجومية ,شهدت السنة التالية أستمرار حرب الخنادق التي لم تغير اي شيء ميدانيا ثم  كابوس السلاح الكيميائي الذي أستخدم للمرة الأولي في التاريخ، في السنة الثالثة قررت أمريكا  دخول الحرب بعد ما وعد الألمان جيرانهم  المكسيكيين بمساعدتهم  في نزاعهم الحدودي ضد جارهم الشمالي، بحلول 1917 كانت المجاعة والكساد علي الأبواب فتكررت حالات التمرد العسكري و العصيان المدني في فرنسا و المانيا و روسيا، الأخيرة تطورت فيها الامور الي ثورة ، وعندما سيطر الشيوعيين بقيادة لينين علي الامور قرروا الخروج من الحرب لتفرح المانيا.

لكن فرحة الألمان لم  تدم طويلا،فمنذ وصول القوات الأمريكية لاوروبا بدأت ميزان القوة يميل للحلفاء.بعد هجوم ال100 يوم استقلت كرواتيا عن الامبراطورية النمساوية المجرية، أوصلت الهزائم المتتالية العسكريين الالمان للتمرد علي القيصر ثم أدت الحالة الأقتصادية الي ثورة بعد شهرين من عقد الهدنة الي اضطرت المانيا ان تقبلها  في اواخر صيف 1918.

بتنازل القصير فيلهيم الثاني عن عرشه انتهت الأمبراطورية الألمانية مثل مثيلتها المجرية النمساوية الي خسرت اغلب اراضيها، و هنا أصبحت الدولة العثمانية وحيدة، بالتالي تشجع خصمها التاريخي اليونان وغزتها لتنشأ حرب أدت الي لمعان ظابط يدعي مصطفي كمال كان معروفا بسمعتة  الطيبة بسبب شجاعته في قتال الحلفاء قبل 3 سنوات، الحرب أعطتة لقب جديد:"اتاتورك" او ابو الاتراك و منصب أول رئيس لتركيا الحديثة بعد الغاء الخلافة العثمانية  ليغيرالأبجدية و يدفع بتركيا نحو العلمانية، في مصر كان الحنق علي مراوغات الأنجليز في تنفيذ وعد الإستقلال قد بلغ مداة، الإحتجاجات تطورت الي ما يعرف بثورة 1919 الي أسست للعقد الذهبي لليبرالية المصرية.

الأن و بمنظور عين الطائر نستطيع فهم كيف غيرت "الحرب الكبري"  مجري التاريخ، سايكس بيكو مثلا رسمت كل حدود الشرق الاوسط و هيأت المجال لنشوء اسرائيل، أسقطت 3 أمبراطوريات ورسمت بذور اوروبا الحديثة، انشأت حركات وطنية ضد الاستعمار في أسيا و أفريقيا، خلقت تحول دراماتيكي في تاريخ تركيا، لكنها ايضا خلقت ظروف مواتية لتكوين اثنتين من ابرز نجوم الموسيقي في التاريخ المعاصر للمنطقة، التركية اليونانية اليهودية روزا اشكينازي و الشيخ العلماني المصري سيد درويش، و لهذا الحديث مقال أخر.


Tuesday, December 2, 2014

عندما حاربت الخيول بجوار الدبابات (1)




نشر هذا المقال بموقع قل.برحاء متابعة القراءة هنا

في أحد المباني القديمة بوسط العاصمة التشيكية براغ يستقر ملصق إعلاني لبنك شهير الملصق عبارة عن مجموعة من السلافيين ويظهر أبو الهول خلفهم ، النص يحكي حكاية تتعلق بمرور تلك القوات بمصر خلال الحرب العالمية الأولى التي يحتفل العالم هذه الأيام بالذكرى المئوية لبدء أحداثها التي غيرت تاريخ الإنسانية والمنطقة، وحتى حياتنا اليومية التي نعيشها الآن، وبرغم أنها موضع تغطية شبه يومية في كل الميديا عالمية، فإنها هنا لا تحوز على أي اهتمام وسط هذيان السياسة الداخلية اليومي. 

حتى نفهم ماذا حدث في "الحرب الكبرى" وما أنتجته، لابد أن نفهم أولًا  شكل العالم سنة 1914. مبدئيًا عليك نسيان كل ما تعرفة عن خريطة العالم اليوم. تقريبًا نصف الدول التي تأهلت لآخر 4 كئوس عالم لم تكن موجودة وقتها. ودول بحجم ألمانيا وأيطاليا كانت حديثة التكوين ويطلق البعض عليها مصطلح "دول مصطنعة". القوى الكبرى كلها، باستثناء فرنسا والولايات المتحدة، كان يحكمها قيصر أو سلطان أو إمبراطور أو على أقل تقدير، ملك. 

المنطقة الأكثر اشتعالا في العالم كانت البلقان، التي كانت بجوار 3 إمبراطوريات كبري: من شمال الشرق (أعلى الخريطة) روسيا، حامية المسيحية الأرثوذوكسية بقيادة قياصرة الرومانوف، وفي جنوب الشرق (أسفلها) رجل أوروبا المريض: السلطنة العثمانية، ومن الغرب (اليسار) الإمبراطورية المجرية النمساوية، القوى الثلاث تبادلت احتلال المنطقة في عمليات تباديل وتوافيق استمرت 500 عام تقريبًا، خلال تلك السنوات نشأت تجمعات لأقليات عرقية ودينية في كل البلدان، على سبيل المثال تكونت جالية يونانية في تركيا، وتركية في رومانيا، وصربية في البوسنة، وبوسنية في كرواتيا، وهكذا.. 

في الوقت نفسه كان الكثير من القوميين الصرب يحلموا بـ"يوغوسلافيا الكبرى" على مساحة تمتد من كرواتيا إلى مقدونيا، وفي سبيل هذا قررت منظمة سرية تؤمن بهذه الأفكار تدعى "اليد السوداء" اغتيال ولي عهد الإمبراطورية المجرية النمساوية أثناء زيارته للبوسنة الخاضعة لسيطرته، ولي العهد كان في طريقه ليصبح الإمبراطور بعد مرض وكبر سن الإمبراطور الحاكم وقتها. والله وحدة يعلم ماذا سيكون الحال لو كان الأرشيدوق "فرانس فيردناند" قد نجا وحاز على اللقب، فكل الدلالات تقول إنه كان إصلاحيًا ويخطط لتقليص صلاحيات منصبه ويحلم بأوروبا على الطراز الأمريكي!!

هذا العصر كان عصر الاغتيالات الفاشلة والمضحكة بحق (كما سنعرف في المقال المقبل عندما يأتي على ذكر محاولات اغتيال سلطان مصر حسين كامل)، حادث اغتيال الأرشيدوق في البوسنة لم تكن استثناءً! فالمحاولة الحقيقية فشلت وقُبِض على أحد المنفذين، أما الأمير فأمر السائق بالتحرك إلى المستشفي لزيارة جنوده المصابين من جراء العملية، لكن السائق الذي لم يكن يعرف المدينة جيدًا سار في شارع خطأ، وفجأة وجد المنفذ الثاني نفسه على مسافة 5 أمتار من الأرشيدوق الذي أصبح الآن بعيدا عن حراسة، وفعلًا، بضغطتي زناد، كان الرجل وزوجتة مقتولين!

ألقي القبض على المنفذ واعترف بتفاصيل المؤامرة فورًا، عقب الاغتيال أرسلت الإمبراطورية المجرية النمساوية لملك صربيا التي كانت تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي، رسالة شديدة اللهجة ومليئة بالطلبات، وافق الملك على كل ما فيها حقنا للدماء، باستثناء دخول محققين أجانب لمملكته، تزامن مع هذا بدء حملات اعتقالات عشوائية ومحاكمات صورية وإعدامات ميدانية للأقلية الصربية في كل الدول الخاضعة للنمساويين، تشاركت قوات الجيش مع ميليشيات مسلحة بوسنية/مسلمة موالية اسمها "قوات الحماية" (Schutzkorps) في تنفيذ تلك الفظائع. 

عبر أوروبا انتشرت المكاتبات الرسمية بين القوى الكبرى التي كانت تدرك قواعد اللعبة جيدًا: نستطيع دومًا الشجار حول المستعمرات وراء البحار، لكن الدخول في مواجهة مباشرة داخل حدود القارة هو الحمق بعينه! المشكلة كانت في ألمانيا وأنجلترا، فالأولى استيقظت متأخرة وتتضور جوعا لـ"المجد"، إذ يتوق القصير الكاريزماتي فيلهلم الثاني إلى فرصة لتوسيع إمبراطوريته الوليدة في أفريقيا وجزر المحيطات، أما الثانية فكانت تؤمن بسياسة وأد أي منافس محتمل على أراضي ما وراء البحار، ألمانيا في هذه الحالة، وتريد الاستيلاء على أملاكها في أفريقيا.

ألمانيا حليفة الإمبراطورية المجرية، كانت الطرف الأكثر حماسًا للحرب، ما جرَّ كل الدول إلى الحرب بمنطق الضربة الاستباقية، ومازال الجميع يتساءل إلى اليوم: لماذا بدأت الحرب؟!

في غضون 30 يوما كانت الأمور قد خرجت عن السيطرة، النمساويون هاجموا صربيا وبدأت معارك طاحنة، روسيا، حليفة صربيا، وفرنسا، حشدتا قواتهما على الحدود الشرقية والغربية لأراضي فيلهلم الثاني. المشكلة الحقيقية أن أحدًا لم يتخيل مغبة ما يفعله: ففي يونيو 1914 كانت أفكار تمجيد الحرب والمحاربين مازالت تملأ عقول الأغلبية الساحقة من أهل الأرض، ملايين المتحمسين من البسطاء تطوعوا لدرجة ان اطفال في عمر 12 سنة تم قبولهم. بالتوازي مع هذا كان العالم قد وصل لتقنيات تسلح متقدمة وغير مسبوقة ولم تجرب قط في حرب فعلية. وهنا كانت الكارثة، تخيل أنها المرة الأولى التي تنزل فيها الدبابات والطائرات والغواصات والسفن البخارية إلى ساحة المعارك الكبرى، وأنها أول تجربة واسعه للسلاح الكيماوي. في نفس الوقت كانت الأساليب التقليدية مازالت مستخدمة في سلاح المشاة. لذا حمل الجنود مدافع من عصر نابليون على الخيول، وساروا جنبًا إلى جنب مع المركبات الحديثة، عبث من الطراز الرفيع!

لمدة 4 سنوات دارت حرب كئيبة بطيئة وعنيفة، ليس فقط في أوروبا، بل في أجزاء واسعة من أفريقيا وآسيا وجزر المحيطات. وبهذا استحقت تلك الحرب لقب "الحرب الكبرى". الملايين تجمدوا واحترقوا في الخنادق المليئة بالثلوج أو الرمال الملتهبة وملأت أجسامهم بأمراض وأوبئة. منهم من فقد أطرافه بسبب التلوث وقضمه الصقيع. النتيجة النهائية كانت 15 مليون ضحية من الطرفين، إلى جانب عدد غير معلوم من المعاقين والأيتام والأرامل والمهجرين. وبالطبع دسته معاهدات غيرت العالم إلى الأبد!

ما لم يكن يعرفه قادة الدولة المتحاربة هو أن الدولة العثمانية مرتبطة بمعاهدة تعاون عسكري سرية مع الألمان، وبالتالي دخلت الحرب، من ناحية بدافع احترام معاهداتهم ومن ناحية ثانية بدافع رغبتهم في الانتقام من روسيا الأرثوذوكية التي تساعد الأرمن على الانفصال المسلح، ومن إنجلترا التي تسحب منها البساط في الشرق الأوسط. 

وقتها، كان الوضع في مصر فريدًا ومعقدًا. الإنجليز هم الحاكم الفعلي للبلاد بعد احتلالهم لها عام 1882، لكن رسميًا، كانت أسرة محمد علي هي الأسرة الحاكمة وتدين بولاء اسمي للسلطان العثماني. ومن هنا كان دخول مصر إلى ساحة الحرب، وهو موضوع المقال المقبل.