Friday, July 20, 2018

المونديال: ٣٠ يوم في الكبسولة

نشر هذا المقال بموقع مدينة.برجاء متابعة القراءة هنا


كرة القدم بشكلها الحالي هي، في رأيي الشخصي على الأقل، أهم ظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية وشوفينية أفرزها القرن العشرين؛ فتطور الكرة كظاهرة لا يقل أهمية ولا تعقيدًا عن اختراع الموسيقى والأدبولذلك أفضل استخدام لفظة المونديال (المشتقة من كلمة Mundus اللاتينيةعن مصطلحكأس العالم“. فهذا الحدث الذي لا يتكرر سوى مرة كل أربع سنوات ليس مجرد بطولة رياضية؛ بل هوكبسولة أدرينالين” تحتوي على “خلاصة” ما آل إليه وضع الإنسانية عند لحظة إقامة البطولة.
جزءمهم من سحرالكرة يكمن في كونها رياضة مفتوحة على كل الاحتمالاتأما سر ذلك أنها عزيزة الأهداف؛ على عكس كرة السلة وكرة اليد غزيرتي النقاطفهما في الشائع محكومتان بقواعد الإحصاء التي تثقل كفة فريق على الآخر، وتقتل عامل المفاجأةأما في الكرة، تلعب التفاصيل الصغيرة قبل وفي أثناء المباريات؛ كإصابة لاعب أو حالة الملعب، أو خروج لاعب أو مدرب عن شعوره، أو خطأ تحكيمي، دورًا ملحوظًا في قلب النتائجوبالتالي تصبح النتيجة النهائية حاصل جمع وطرح التوفيق والاجتهاد والفروق الفردية والحظ والإصرار والتضحية وحماس الجمهور والمجهود الفردي والجماعي.
تلك التفاصيل الصغيرة كثيرًا ما أنصفت فرق صغيرة على الأسماك الكبيرة؛ مثلما تعادلت أيسلندا مع الأرجنتين في هذه النسخة من البطولة، وقبلها انتصرت السنغال والكاميرون على بطلتي العالم حينئذ فرنسا والأرجنتين في 98 و 98. كما يفسر فوز مصر على إيطاليا بكامل نجومها، ثم خسارتها أمام أمريكا الأضعف بثلاثية بعد 72 ساعة في أثناء بطولة كأس القارات 2009.
في السنوات الأخيرة، أصبحت مباريات الأندية الأوروبية هي المستوى التنافسي الأرفع لتلك الرياضة، وتوارت كرة المنتخبات إلى المستوى الثانيلكن يبقي المونديال استثناءً، فمجد الفوز بالمونديال يفوق بكثير تحقيق بطولة دوري الأبطال الأوروبي أو الفوز بالكرة الذهبية لأفضل لاعب في العالموبالتالي تصبح البطولة فرصة لإثبات ونفي كل الأفكار الكبرى المتناقضةإنها استعراض حي لحب الوطن، والشوفينية، وتصفية الخلافات العرقية والسياسية والدينية والتاريخيةمثل ما فعل الثنائي شاكيري وتشاكا ذوا الأصول الألبانية أمام صربيا منذ أسابيع قليلة، أو مثلما اعتبرت إيران فوزها على الولايات المتحدة في نسخة 1998 انتصارًا على “الشيطان الأكبر” أو الأرجنتين التي “ردت اعتبارها” في الملعب في نسخة 1986 بعد ما خسرت الحرب ضد مارجريت تاتشر على جزر فوكلاندأو التسامي فوق كل تلك الخلافات ومصافحة من كان عدوًا يوجِّه سلاحه إلى عدو في ساحة حرب؛ مثلما فعلت أمريكا مع إيران في المباراة سابقة الذكر نفسها، أو مثلما فعلت ألمانيا الغربية وإنجلترا في عقدي الستينيات والسبعينيات بعد صراعهما خلال الحرب العالمية الثانية.
المونديال أيضًا فرصة على طبق من ذهب لتأكيد كل أفكارنا وأحكامنا المسبقة؛ الإيجابية أو السلبية عن أنفسنا وعن الآخرين، أونبذها كجزء من عالم قديم يموتمثلاً تغدو تصرفات اللاعبين والجمهور في المدرجات فرصة لإثبات كسل الإنسان الأفريقي، وانعدام قدرته على التركيز والإنتاج في اللحظات الحاسمة، مثلما تسبب تراخي لاعب السنغال في المباراة الحاسمة ضد كولومبيا في خروج فريقه، بقدر ما هي فرصة لإثبات قدرته الجبارة على عبور المصاعب على الرغم من فارق الإمكانات المادية والظلم، مثلما فعلت غانا في 2010. مثال آخر يكرر كل المحفوظات المعتادة عن أدب اليابانيين الجم، في المقابل تسمح الكرة بفرصة مثالية لكسر التنميط الأجوف عن نظام الألمان وإبداع اللاتين وتحفظ الهولنديين.
حتى على مستوى الأيديولوجيا والأفكار الكبرىالمونديال فرصة لتأكيد أن أفضل طريق “للتقدموالنجاح هو التمسك بالخصوصية الثقافية مثل المكسيك التي أصبحت زبونًا دائمًا في نادي الكبار بفريق أغلبه من اللاعبين المحليين، ولكنها أيضًا فرصة لإثبات أن الطريق الأفضل للتقدم نفسه والنجاح في الكرة وغيرها هو استيراد النموذج الغربي وإتقان كل تفاصيله وإعادة تغليفه وبيعة للعالم، وذلك مثلما تفعل اليابان في صناعات الإلكترونيات والويسكي، ومؤخرًا كرة القدم التي استوردت كل عناصر وأفراد صناعتها من الغرب ثم “صنَّعتها، وبدأت في “تصدير” لاعبيها لفرق بطولات القمة في تلك الدول نفسها.
وعلى مستوى الثقافة تبدو الكرة اللاتينية انعكاسًا لنجاح روائيي تيار الواقعة السحرية الجنوب أمريكيين.إنه دليل آخر على أن أفكارًا محلية أصيلة يمكنها غزو العالم حتي تصبح مقياسًا معياريًّا؛ مثلما غزا لاعبو البرازيل والأرجنتين والأوروجواي العالم، وأصبحت طريقتهم في تدوير الكرة وبناء الهجمات من الخلفمصدرًا لخطط منتخبات مثل إنجلترا التي كانت تاريخيًّا أمة كروية لا تؤمن إلا بالـ “” kick and run


على المستوى الديني والسياسي هي فرصة لأصحاب نظرية “الفرد الملخص” والقائد الملهم القادر على تحقيق المعجزات وحمل أحلام بلد كاملة على كتفيه، مثلما فعل مارادونا في 86، ومثلما هي فرصة للمؤمنين بدولة المؤسسات والمنظومة التي تبني فريقًا من متوسطي الموهبة يستطيع التغلب على الموهبة الفذة أن تحلى بروح الفريق والعمل الجماعي كألمانيا التي أهانت البرازيل بـ 7 أهداف على أرضها وعادت إلى برلين بالكأس في 2014.
المونديال كذلك فرصة لاستكمال حرب أحزاب اليمين واليسار في أوروبا؛ تعطينا منتخبات فرنسا وبلجيكا تأكيدًا عمليًّا لاندماج وولاء المهاجرين وأطفالهم في دولهم الجديدة؛ رقميًّا تغدو نسبة تمثيل تلك الأقليات في منتخب فرنسا على سبيل المثال أربعة أضعاف نسبة هذه الأقليات نفسها في التعداد السكاني للدولة الكولونية السابقةعلى صعيد آخر فمنتخب المغرب المكون من 19 لاعبًا، من أصل 23من مواليد أوروبا، هو تأكيد معاكس لكل أفكار اليمين الأوروبي عن ولاء هؤلاء المهاجرين وأولادهم لبلدانهم الأم.
وعلى المستوى الفردي؛ يكفينا زين الدين زيدان المواطن الفرنسي الذي أضاءت صورته الأيقونية قوس النصر في باريس عندما قاد منتخب بلاده إلى أول بطولة كأس عالم في 1998، وهو نفسه الذي ينعت بـالجزائري” كلما تذكرت واقعه نطحة رأسه الشهيرة في نهائي مونديال 2006.
أما على مستوى الميتافيزيقا والسفسطة الفارغة؛ المونديال فرصة لإثبات استحالة تغيير القدر، مثلما خسرت المكسيك هذا العام للمرة السابعة على التوالي في دورالـ16، أو فرصة لإثبات أن الأيمان بالذات هو طريق كسر كل العقد الخرافية، كما فعلت إنجلترا التي نجحت أخيرًا في الفوز لأول مرة بضربات الجزاء في 70 سنة كأس عالم!
وأخيرًا؛ المونديال فرصة لتأكيد أن “قيراط حظ ولا فدان شطارة” وأن التاريخ يكتبه المنتصرون، وأن هداف كأس العالم التاريخي ميروتسلاف كلوزة في الحقيقة ليس موهوبًا إلا في ركل الكرة برأسه، بينما ميسي “أحسن حد لمس كورة” في تاريخ البشرية حسب الكثيرين، سيتذكره التاريخ بـالكابتن الذي فشل“. المونديال يا سادة ثلاثون يومًا من دروس التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد وعلوم الاجتماع والحب والحرب والأمل وليس مجرد 22 “شحط” يتسابقون لركل قطعة من الجلد منفوخة بالهواء!

Saturday, May 19, 2018

الأغنية الوطنية ... من أناشيد الجهاد إلى ديباجات الفكر الجديد

نشر هذا المقال بموقع المنصه  في العام 2010. محتوي الموقع لم يعد متاحا للقراء

الأغنية الوطنية ...
من أناشيد الجهاد إلى ديباجات الفكر الجديد
محمد عبد الله



في العام 1850 أرسل الخديوي إسماعيل (ولد 1830 وتوفى 1895، وهو خامس حكام مصر من الأسرة العلوية وحكم من بداية 1863 إلى 1879) مطرب بلاطه عبده الحامولي (1836- 1901)، إلى الآستانة ليغني أمام السلطان العثماني أغنيتة الشهيرة "مليكي أنا عبدك"، و برغم كونها أغنية عاطفية تقليدية,فإن المعنى من الرسالة التي أراد الخديوي إرسالهما إلى الباب العالي غالبا قد وصلا كاملين.
في ذلك الوقت كان المصريون وحكامهم ما زالوا يعانون ارتباكا ما بين هوية مصر الوليدة كدولة مدنية مستقلة وما بين هويتها التي اكتسبتها خلال ما يربو على ألفي عام كإمارة تابعة دوما لأمبراطورية ما تستمد شرعيتها من سلطة روحية أودينية.
خلال المائة وخمسين عاما التي تلت ذلك اليوم يمكن اعتبار الأغنيات التي تتحدث عن الوطن أدوات تعبير تعكس تبلور وتغير أفكار الوطن والوطنية والمواطنة.
هذا المقالالذي يعتبره الكاتب مجرد نظرة أولية على الأغنية الوطنية المصرية - يحاول التعرض لجل ما تم غنائه للوطن وتصنيفه، محاولا الوصول إلى توصيف مبدأي لكلمة "الأغنية الوطنية"؛ كما يحاول المرور - في عجالة - علي أبرز المنعطفات والمحطات على طريق هذا اللون الغنائي.
النشيد الوطني...و القومي أيضا
لعل أول ما يتبادر إلى الأذهان عند ذكر مصطلح "الأغنية الوطنية" هو النشيد الوطني؛ إذ يعتبره أغلب العامة والخاصة الرمز الوطني الأول بالتساوي مع العلم، وبالتالي وجد كل حاكم أو نظام فيه فرصة ذهبية للتعبير عن سياساته أو أيدولوجيته أو لإقناع رجل الشارع بأفكار ما.
ووفقا لموسوعة ويكيبيديا فإن أول نشيد وطني مصري معروف هو السلام الوطني الذي بدأ عزفه في عام 1869 في عهد الخديو إسماعيل، وينسب وضع هذا السلام إلى المؤلف الموسيقي الإيطالي فيردى، ثم أصبح نشيد "اسلمى يا مصر" الذي ألفه مصطفى الرافعي (كاتب مصري ذو ميول إسلامية أصله يعود إلى مدينة طرابلس اللبنانية ولد1880 وتوفى 1973) ولحنه صفر علي هو النشيد الوطني في الفترة من 1923 حتى 1936 (يستخدم حاليا كنشيد لكلية الشرطة).
وبسبب ما كانت تمر به البلاد في ذلك الوقت من فورة وطنية ضد الاستعمار البريطاني امتلأْ النشيد بمعاني الجهاد(وَمَعى قلبى وعَزْمى للجِهَاد ,ولِقَلْبِى أنتِ بعدَ الدِّينِ دِيْن) والفداء (إنْ رَمَى الدهرُ سِهَامَه، أتَّقِيها بفؤادى) والفخر الوطني (أنا مِصْرِيٌّ بنانى من بنى هرمَ الدَّهرِ الذي أَعْيا الفنا، وَقْفَةُ الأهرامِ فيما بَيْنَنَا لِصُلُوفِ الدَّهرِ وَقْفَتى أنا).
ومع أفول الملكية استبدال "اسلمي يا مصر" بنشيد الحرية لكامل الشناوي ومحمد عبد الوهاب الذي استخدم جزئيا أيضا كنشيد للجمهورية العربية المتحدة في العام 1958، و لعل أبرز ما يميز هذا النشيد هو كونه أول نشيد باللهجة المصرية، كما تغلب علية النبرة التعبوية، فبالإضافة إلى اللحن الحماسي ,يفتتح الشاعر النشيد بمقطع "كــنــت في صــمــتــك مــرغم؛ كـنـت في صبرك مــكــره، فـتــكــلم وتألـم، وتــعلــم كـيـف تـكــره"، و قد يبدو الأمر للبعض و كأنه درسا في الكراهية، لكن ذلك قد يمكن تفهمه إذا تم وضعه في سياقه التاريخي.
مع تصاعد وتيرة الحماس التحرري تم اعتماد نشيد "والله زمان يا سلاحي" العام1960 نشيدا قوميا، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الإعلام المصري عن استخدام لفظ "قومي" عند وصف النشيد الرسمي للجمهورية المصرية إلا منذ سنوات قليلة مضت
لظروف الحروب المستمرة ظل هذا النشيد معمولا به حتي بعيد توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979)، ومنذ ذلك الحين استخدم المقطع الأول من أغنية "بلادي بلادي" لسيد درويش (1892- 1923) بعدما أعاد محمد عبد الوهاب توزيعه؛ و الجدير بالذكر أن الناقد الموسيقي أشرف عبد المنعم قد أثار سجالا منذ سنوات قليلة حول اللحن الأصلي للنشيد، فوفقا له لم يتوقف الأمر عند إعادة التوزيع، بل إن تغييرا قد طال اللحن الأصلي، وبما أن اللحن الأصلي لم يسجل بصوت مؤلفه فإن احتمالية حدوث ذلك تظل ممكنة، ولكن القطع بحدوثها من عدمه يبقي في دائرة المستحيل.




فخ الأغنية الرسمية
إذا ما تجاوزنا النشيد الوطني،فإن الصورة التالية التي ستطرأ علي الأذهان هي صورة ذلك المطرب الذي يغني أمام رئيس الدولة في احتفال رسمي، أو تلك الأغنية المصورة للاعبي المنتخب الوطني التي تتغنى بالوطن ورجاله وما حازوه من مجد رغم الصعاب.
ما ينبغي التوقف عنده هو أن النسبة الأكبر مما أنتج من أغاني وطنية يندرج تحت بند "الأغنية الرسمية" أو "أغنية المناسبة"،وهي أغنية غالبا ما كتبها صانعوها لمجاملة ومداهنة نظام أو حاكم بعينه، أو لعرضها خلال ذكري مناسبة ما، أو كرد فعل لحادثة (غزو أو تدخل اجنبي مثلا).
ولكن في نفس الوقت لا ينبغي الوقوع في فخ التعميم والاتهامات، فقد كتب الكثير من أيقونات مصر -كصلاح جاهين (1930 - 1986، شاعر ورسام وممثل مصري) في الستينات- بعض هذه الأعمال من واقع إيمانهم بقضية بعينها، ولكن في نهاية المطاف، لا يمكننا نفي صفتي المباشرة والتكلف عن معظم ما تم إنتاجه في هذا الباب بغض النظر عن دوافع صانعيه، و ربما كان اعتراف بعضهم لاحقا (عبد الرحمن الأبنودي مثلا) بسرعة إنجازهم لها دليلا علي خلو الأمر برمتة من الشغف، لكن المثال الأبرز يبقى هو أغنية "مصر هي أمي"، إحدى أهم أغنيات الثمانينات الوطنيه والتي تم اقتباسها لحنا وكلمات من أغنية للفنان فؤاد المهندس قدمت في الكوميديا السبعينية "فيفا زلاطا".
من مطرب البلاط إلى المطرب الموظف
منذ فجر التاريخ تراوحت العلاقة بين طائفة الفنانين والقصر ما بين التوجس المتبادل حينا، التحاشي ومحاولة تفادي الاصطدام حينا، الاعتراض والانزعاج في أحيان والتوافق المزاجي بل وتبادل المصالح في أحيان أخرى.
عادة ما يعتمد ذلك على قوة الحاكم وسعة حيلته، وعلى يسر الحالة المادية للمغني وموقفه مما يحدث في مجتمعه.
في مصر -كغيرها من دول العالم- اقترب الكثير من المطربين من السلطة و أهلها، إما تعبيرا عن اقتناع مذهبي أو أيدولوجي، أو استباقا لتفادي لبطش قد يقع أو استجابة لأمر مباشر من السلطة أو زلفة لحاكم.
منذ العهد الملكي غنى الكثير من أيقونات الوطن الفنية تمجيدا للحاكم؛ محمد عبد الوهاب (1902 - 1992) -مثلا- لحن لليلي مراد (1918 - 1995) اغنيتها الشهيرة "ياللي بدعتوا الفنون" والتي تمدح الملك فيها قائلة: "والفن مين أنصفه غير كلمة من مولاه، والفن مين شرفه -غير الفاروق- ورعاه".
ولكنذلك لم يمنع عبد الوهاب من تلحين الكثير من الأعمال الدعائية للنظام الناصري كأوبريت "وطني حبيبي" -يعود ذلك بالطبع إلى براجماتية أصيله لديه- وهو ما مكنه من الحصول علي رتبة عسكرية شرفية ليقود الأوركسترا العسكرية في عزف النشيد الوطني المصري الذي كان يذاع عند ختام البث التليفزيوني في السبعينات.
ومن المعروف أن العديد من الأغنيات التي تتغني بالملك تم منعها عقب قيام الضباط الأحرار بثورة 1952، بل إن بعض الشائعات قالت إن مجموعة من المطربين المعروفين بولائهم "للعهد البائد" -النظام الملكي- قد تم منع اعمالهم من الإذاعة، وقيل أيضا أن أم كلثوم (1908 – 1975) تم منع أعمالها لفترة قصيرة بسبب أغنيتها الشهيرة للملك فاروق ( فاروق الأول ولد 1920 وتوفى 1965، أصبح ملكا على مصر عام 1936 حتى خلعه 1952) في عيد ميلاده، و التي تغنت بها في حفل النادي الأهلي قبل أن يصدر لها عفو رئاسي من قبل عبد الناصر شخصيا (جمال عبد الناصر ولد 1918 وتوفى 1970، قاد تنظيم الضباط الأحرار لقلب نظام الحكم املكي في مصر عام 1952، وأصبح هو ثاني رؤساء مصر عام 1954، وحتى وفاته).
وبقيام ثورة يوليو ارتقت طبقة جديدة إلى سدة الحكم وكان عبد الحليم حافظ (1929 - 1977) هو المعبر الأول عنها، عبد الحليم الذي ولد فنيا في الساعات الأولي للثورة كان الصوت الأبرز للطبقة الوسطي المتعلمة وبوقا للنظام الناصري وأفكاره الاشتراكية والقومية حتي قيل إنه كان مطربا للنظام بدرجة موظف، وهو مشابه للاتهام الذي يلقيه البعض باتجاه المطرب محمد ثروت الآن مع مراعاة الفارق بين استقبال الجماهير لأغاني المطربين.
لكن عبد الحليم لم يكن حالة متفردة، فلم يخل عهد أي رئيس مصري من اتهامات ممثالة لبعض المطربين، كياسمين الخيام في فترة الرئيس السادات (محمد أنور محمد السادات ولد 1918 – وتوفى 1981، تولى منصبه كثالث رئيس للجمهورية المصرية عام 1970 1970 وحتى اغتياله).
وفي هذا السياق لا يمكننا إنكاراستفادة هؤلاء المطربين الموهوبين من الإمكانيات الكبيرة التي وفرتها لهم الآلة الدعائية للإعلام الرسمي المصري وخاصة في العهد الناصري الذي شهد مولد الإذاعات الموجهة و البث التليفزيوني.
في المقابل، استفاد النظام من شعبية هؤلاء المطربين الواسعة في العالم العربي لتقديم أفكاره إلى الجمهور من المحيط إلى الخليج.
وطن سعيد بلا تفاصيل حية
في النصف الثاني من القرن العشرين اهتمت الأغنية الوطنية الرسمية برسم صورة إيجابية للوطن وتغنت بالمشاريع القومية والوطنية الكبرى، كبناء السد العالي والوحدة العربية أو استعادة الأرض المسلوبة والسلام والتنمية الاقتصادية والاستقرار، أما المواطن العادي فلم يتم التعرض له إلا كأداة للتنمية أو معول للبناء أو كفرد سعيد بما يتم تحقيقه.
حتي في محاولات الإعلام الرسمي إعادة إنتاج الفلكلور بشكل عصري تم التركيز على رسم صورة اشتراكية أو تقدمية للمواطن، لم يهتم أحد بالتعبير عن مصر كوطن حي ينعم ويكابد أبنائه بشكل يومي، تتخلق سعادتهم وشقائهم نتيجة للبسيط والعادي مما يرونه في حياتهم اليومية، باختصار، في الصورة الكبيرة اختفت التفاصيل.
بين التفاخر بالماضي والفخر بما تصنعه الأيدي
ما بين فخر وأسف وتقريع اعتاد كتاب الأغاني الوطنية الإحالة إلى الماضي؛ يستوي في ذلك إن كان الوطن هو الموضوع الأساسي للأغنية أم لا، فمثلا يلوم سيد درويش في إحدى أغانيه المحدثين من أبناء بلدة قائلا "فين آثارك ياللي دنست الآثار، دول فاتولك مجد وانت فتّ عار"، أو يفخر في أغنيته العاطفية قائلا "أنا المصري كريم العنصرين"، بينما شهدت الخمسينات والستينات تنامي لاتجاة يفضل التفاخر بما تم أو سيتم إنجازه علي أرض الواقع.
قدمت معظم هذة الأعمال في قالب ما بين التعبوية والتبشير والوعيد، فغني عبد الحليم حافظ من كلمات صلاح جاهين مبشرا بدار أوبرا في كل قرية مصرية، وتحدثت فايدة كامل عن "وحدة ما يغلبها غلاب"، فيما يستهجن عبد الحليم سلوك السلبيين واصما إياهم بـ"عديمي الاشتراكية"، ولعل الستينات هي الفترة الأكثر ثرائا لما احتوته من زخم على مستوي الأحداث، ولما شهدته من حراك اجتماعي وطبقي بالإضافة إلى أنها شهدت تطورا كبيرا علي مستوي تقنية الصوت والصورة والبث.
الحاكم رمزا للوطن
منذ بداية التاريخ، اعتبر المصريون الحاكم ممثلا للإله، وفي مختلف العصور تغني الكثير من الفنانين بحكامهم، وبالتالي يمكن اعتبار ربط صناع الأغنية الرسمية الحاكم والوطن من قبيل التطور المنطقي، ففي عهد الملك فاروق، تم الاحتفاء بشخص الملك في الكثير من الأغاني، ذلك بالإضافة إلى أغاني المناسبات كعيد ميلاده، أو ميلاد ولي العهد أو زواجه الثاني (أغنية "مبروك علي سموك و سموه") لأم كلثوم مثلا.
أما في العهد الجمهوري فقد كان الرئيس عبد الناصر أكثر من كتبت في شخصه الأنشايد و الأغاني مثل "يا جمال يا مثال الوطنية" لأم كلثوم و التي تم استخدامها من قبل بعض مسئولي الاعتقالات كوسيلة للضغط النفسي علي معتقلي الإخوان بإجبارهم على غنائها أثناء طوابير التذنيب.
وعند موته كتب فيه المزيد، و لعل أغنية وداعه الأشهر "يا جمال يا حبيب الملايين" هي الأكثر انتشارا حتي اليوم بين محبيه.
ربما يعد الرئيس السادات هو أقل من تم ذكره في الأغاني بين الحكام المصريين المحدثين،، إذ ركز الأغلب علي الاحتفاء بانتصار أكتوبر (6 أكتوبر 1973 معركة تخطى فيها الجيش المصري قناة السويس وخط بارليف الدفاعي على القناة وأجبر القوات الإسرائيلية التي كانت تحتل سيناء على التراجع لكيلومترات)، و لعل أغنيتي "تعيش يا سادات" لسيد مكاوي (1928 - 1997)، و "مصر تخاطب فتاها" لفايدة كامل هما استثناءان.
أما الرئيس مبارك (محمد حسني مبارك ولد 1928 وتولى رئاسة الجمهورية المصرية بعد اغتيال سلفه 1981، مازال يحكم حتى الآن) فحرص الشعراء علي ذكره في مقطع أو مقطعين من أغانيهم الوطنية خلال الأوبرتات السنوية في ذكرى معارك أكتوبر، و لكنهم أيضا يغازلونه بطريقة غير مباشرة بتكرار الأشارة إلى الضربة الجوية الأولي التي قادها في تلك الحرب.
يوميات الأغنية الرسمية
كما أسلفنا، أنتجت الآلة الإعلامية الرسمية ما بين عامي 1952 و1967 كما كبيرا من الأغاني تيمتها الأساسية مجابهة الاستعمار وتعديد المكاسب الاشتراكية كالإصلاح الزراعي والوحدة العربية ومحاربة الصهيونية ومساندة قضايا التحرر في العالم الثالث وفلسطين.
أما بين عامي 67 و 73 فقد شهدت مصر الكثير من التقلبات، فمن هزيمة عسكرية إلى نصر تكتيكي غنى المصريون للهزيمة والمقاومة والأمل والنصر، ولم يتجاوب الكثير من الناس مع المنشورات الغنائية المباشرة من نوعية "أصبح الآن في يدي بندقية"، و لكنهم انحازوا بقلوبهم إلى شجن "عدي النهار" وحزن ورمزية مجدي نجيب في "قولوا لعين الشمس ما تحماشي".
خلال معارك 73 العسكرية وبعدها مباشرة غنى الجميعن بعفوية هذة المرة لما اعتبروه نصرا ميدانيا، كانت أبرز هذة الأغنيات هي "راجعين.. في إيدينا سلاح".
و الجدير بالذكر أن الإذاعات الرسمية فتحت أبوابها للجميع وقتها، حتى أعتى المعارضين السياسيين من نوعية أحمد فؤاد نجم، وبمرور السنين تحولت الاحتفالات السنوية إلى مناسبة مفتعلة يلقي خلالها المغنون في أزياء جنود صاعقة أجزاءا من أوبريتات فاترة تتغني بشجاعة وإقدام الجندي المصري ثم يتلقون التكريم الرسمي من رئيس الجمهورية.
ما بين العام 74 وحتي مقتل الرئيس السادات أضحي السلام التيمة الأهم؛ أما في السنوات الخمس والعشرين الأولي من حكم الرئيس مبارك، فقد ركز صناع الأغنية الرسمية على التنمية الأقتصادية والاستقرار وذلك إلى جانب التغني بحرب أكتوبر التي كان الرئيس قائدا لأحد أسلحتها، اما في السنوات الخمس الأخيرة فقد شهدت الأغنية الوطنية تطورا علي مستوي الكلمة والموضوع والتقديم والصورة، وهو تطور ستتم مناقشته لاحقا.
القومية العربية في مواجهة الشخصية المصرية
بينما كرس نظام رئيس عبد الناصر لأفكار القومية العربية شهدت الفترة التي تلت اتفاقية كامب ديفيد (اتفاقية سلام بين حكومتي مصر واسرائيل وقعت عام 1978 برعاية أمريكية في منتجع كامب ديفيد بالولايات المتحدة وأنهت نحو 30 عاما من الحروب بين البلدين) جفائا مصريا عربيا علي المستوي الرسمي انعكس مباشرة علي المستوى الشعبي؛ بدأ الأمر عند تكوين "جبهة الصمود و التصدي" (تحالف عربي تأسس في نهاية سبعينات القرن العشرين لمناهضة نهج حكومة القاهرة الداعي لعقد اتفاقات سلام مع اسرائيل وضمت سوريا والعراق وليبيا واليمن الجنوبي والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية)، ومن ثم نقل جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس 1979.
شهدت تلك الفترة إعلاءا لفكرة القومية المصرية، فغنى محمد ثروت من ألحان محمد عبد الوهاب "عاشت بلادنا" التي يقول فيها "مصر اللي مديانا.. شخصيتها في دمانا.. بتاريخ عالي المكانة.. فخر لجيل بعد جيل".
في العام 1991 شهد الشرق الأوسط حرب الخليج الثانية؛ عندئذ تلاقت أهداف المؤسسة الرسمية مع الكثير من بعض المطربين ممن عدوا سابقا في نطاق "المشاغبين"، فقدم علي الحجار مع الشاعر القومي جمال بخيت ألبوم "لم الشمل"، ولمعت المطربة الجديدة وقتها عايدة الأيوبي بأغنيتها "على بالي" التي أذاعها التليفزيون المصري مرارا و تكرارا بكليبها الذي يظهر فيه الكثير من المواطنين المصريين الفارين مع عائلاتهم من الغزو العراقي للكويت على الحدود بين الكويت والسعودية والأردن.
لكن الأفكار القومية عادت للظهور بشكل فطري أثناء انتفاضة 2001 الفلسطينية، ومن بعدها غزو العراق 2003، مع عودة المظاهرات إلى المجال العام و الجامعة، واستحوذ أوبريت "الحلم العربي" علي قلوب الطبقات الوسطي في مصر -كغيرها من الدول العربية- بتقديمه جرعة مخدرة -صارت معتادة- للمشاكل الاجتماعية عبر تقديمه جرعة أمل مستقبلية غير مبررة.



الوطن في عيون المعارضة
في الوقت الذي تقرب فيه بعض الفنانين من النظام الحاكم, آثر البعض تحاشيه بينما عارضة واصطدم به قلة قليلة وفقا لأيدولوجيا أو اعتراضا علي ما رأوه ظلما اجتماعيا أو فسادا سياسيا.
وبسبب ما حظي به العصر الملكي من حراك سياسي واجتماعي، ونتيجة للتناوب الحزبي علي تشكيل الحكومة، وتراوح موقف الناس من الملك ما بين حب جارف وغضم عارم، لن يكون في وسعنا تصنيف أيا من مغني ذلك العصر تحت مسمي "المطرب المعارض"، ولعل وجود قوة عسكرية أجنبية على أرض مصر كان سببا في صرف مطربي التيارات السياسية المختلفة عن هوايتهم -التي ستصير مفضلة لاحقا- في الاشتباك ببعضهم البعض.
أما العهد الجمهوري فقد عرف -في مجمله- بتسلط الإعلام الرسمي ومنعه ظهور أي من معارضي النظام من الظهور علي قنواته، وكرد فعل طبيعي بدأ بعض المطربين والكتاب في تنظيم حلقات غنائية سرية في بيوتهم.
استقطبت تلك الحلقات التي تكونت بشكل فطري الشباب الأكثر ثقافة وبعض أعضاء التنظيمات اليسارية حتي صارت صداعا للدولة بتصدير الأناشيد و الشعارات إلى المظاهرات المختلفة حتي آخر تظاهرات العامة عام 1977، بل ووصل صوتهم إلى أغلب الدول المتحدثة بالعربية وفتحت لهم العديد من الأبواب.
اصطلح أهل المعارضة على تسمية هذا النوع من الفن بالـ"فن الملتزم"، وصار من يقدمه "فنانا ملتزما" بقضايا وطنه أو حزبه أو تنظيمه أو مجتمعه، و يعتبر أحمد فؤاد نجم (من مواليد 1929) والشيخ إمام عيسى (1918 - 1995) الثنائي الأشهر الذي قدم هذا النمط.
تأثر ذلك الثنائي بأفكار اليسار الذي التف حول الفنانين القادمين من قاع السلم الاجتماعي والمليئين بالسخط على الأوضاع العامة والخاصة، فبينما حظي أحمد فؤاد نجم بطفولة يتيم بائس مليء بالموهبة كان الشيخ أمام كفيفا فقير الحال، نزحا في توقيت واحد تقريبا من الدلتا ومحافظة الشرقية إلى القاهرة ليتقابلا في حوش قدم الشعبي، و يظلا كتوأم فني حتي يدب الخلاف بينهما اثناء وجودهما بالخارج لتقديم بعض الحفلات.
امتلأت شرائط الكاسيت المتداولة سرا بأغاني الثنائي عن الكفاح و الثورة ضد الطغيان مما أدي لأعتقال نجم مرات عديدة، ووصل الأمر بالرئيس السادات لحد أن هاجمة شخصيا في إحدي خطبه.
و كما رسم المطربون الرسميون للوطن صورة وردية، و اختصروه في شخص حاكمه، اقتصر الوطن في غناء أهل المعارضة على نظام و حكومة فاسدة متحالفة مع أقلية مستفيدة تنعم بخيرات أنتجها غيرهم من فلاحين وعمال بسطاء ("غلابة" وفقا للوصف المتكرر) يشكلان أغلبية شعب يأن تحت نير الظلم الاجتماعي والطبقي.
قدم الغالب من هذه الأعمال حلولا راديكالية مبسطة إلى حد الإخلال للمشكلات الاجتماعية والسياسة التي تعانيها البلاد، وبشرت هذه الأغاني بالثورة الحتمية التي سيقوم بها المظلومون، والتي ستحول مصر إلى جنة العدل الاجتماعي.
برغم التضييق المفرض عليها، توارثت أجيال هذه الأعمال علي نطاق متوسط، فلم يتخط عدد العارفين بأشهرها عشرات الألاف علي أحسن التقديرات، كما عيب علي مقدميها تفضيلهم للثنائيات الفنية التي كثيرا ما أجبرت الموسيقيين علي تلحين كل ما ينتجه شاعرهم، حدث هذا في حالة الثنائي نجم وإمام، وحدث ايضا في حالة الثنائي وجيه عزيز وعلي سلامة في بدايات الألفية.
وجيه قرر بعدما حظي ببداية مبشرة نهل خلالها من تراث صلاح جاهين و فؤاد حداد ومن تلاهم من جيل السبعينات كمجدي نجيب، ثم جاوزهم إلى المحدثين كمحمد ناصر علي, أن يرتبط فنيا بالشاعر علي سلامة الذي رغم بدايته المبشرة أسرف في كتابة الأشعار حتي تشابهت أشعاره على متابعيه.



من الناس إلى الناس
وبعيدا عن محترفي الفن؛ اعتاد المصريون على الغناء في كل مناسباتهم كما استخدموه للتعبير عن أحزانهم و أفراحهم اليومية.
امتلأ التراث المصري بمختلف صنوف الغناء ولم يتوقفوا أبدا عن إضافة الجديد له، و بالتأكيد لم يكن الوطن -بمعناه الكبير- موضوعا لغناء عموم الناس، فخلت معظم الأغاني التراثية الصعيدية والدلتاوية تقريبا من سيرة "مصر" أو الـ"وطن"؛ لكن احتكاك البعض بالقضايا الكبرى بشكل يومي أفرز العديد من الأعمال التي بقيت في الوجدان الجمعي لزمن طويل.
بسبب موقعها الجغرافي، كانت منطقة القناة الأكثر التصاقا بالقضايا الكبري للوطن، فتغني بعض "صحبجية" "الضمة" البورسعيدية لحفر القناة ولجمال عبد الناصر بعد تأميم القناة عام 1956، وظهرت مصطلحات "مصر" و"القنال" والـ"نصر" والـ"معارك" نتيجة ما عايشوه في الفترة ما بين 1967 و1973، بل اشتهر بعض الفنانين الفطريين كالريس حمام السويسي وظهر في القنوات الإعلامية الرسمية من آن لآخر ليغني أغانيه مثل "غني يا بندقية" علي أنغام السمسية، الآلة الموسيقية الوترية المميزة لمدينته.



السيدان درويش ومكاوي.. وطن من لحم و دم
علي مستوي الغناء الاحترافي، كان الفنانان سيد درويش وسيد مكاوي حدثيين استثنائين في مسيرة الأغنية الوطنية.
اتخذت الأغنية الوطنية منحنى جديد بظهور سيد درويش، استطاع سيد مع شاعره المفضل بديع خيري (1893-1966) التعبير بموهبة فطرية عن وطن من لحم و دم، فضل الاثنان -وهما من أبناء الشارع- الغناء عن و إلى طوائف الشعب التي قابلاها في حياتهما اليومية كأغاني الطوائف المهنية (العربجية والحشاشين والشيالين) و "إوعى" و الأوبرتات (أوبريت العشرة الطيبة).
وبدلا من الغناء ثقيل الظل عن أفكار عظيمة ومعاني مجردة انحاز الثنائي لتفاصيل العادي واليومي في خلطة بسيطة و جذابة -في غالب الأمر- تجارية أحيانا.
ولعل من رحمة القدر أن توفي سيد درويش مبكرا قبل اختلاطة بالانتلجينسيا التي كانت غالبا ما ستستغل بساطة عقلة وتستخدم موهبته الموسيقية كبوق لأفكارها.
وبعد 40 عاما جاء سيد مكاوي فحذا حذوه خاصة فيما لحنة لفؤاد حداد مثل المسحراتي، موال باب الخلق وحي الأزهر.



المواطنة المغدورة
وباستثناء الثنائي سيد/بديع ابنا العشرينات والثلاثينات التي شهدت تيارا علمانيا قويا؛ يمكننا تصنيف جل ما أنتجه كتاب الدراما والأغاني عن قضية المواطنة "كيتشا" وطنيا.
ومن المثير للسخرية المريرة أن الكثير من المطربين والفرق التي ظهرت مؤخرا علي ساحة الموسيقي المستقلة، والتي تتدعي التحرر من القوالب والأفكار الجامدة في الموسيقى والكلمات والأفكار لا تستطيع مجاراة الأفكار التي ظهرت خلال هذين العقدين.
علي سبيل المثال، غنت إحدى هذه الفرق مؤخرا أغنية "إوعى" واستبدلت كلمة "يهودي" بـ"غيره" في المقطع القائل "لا تقولي نصراني ولا مسلم ولا يهودي.. يا شيخ اتعلم؛ إللى الأوطان بتجمعهم.. عمر الأديان ما تفرقهم".



السبعينات وإرهاصات موسيقي الجيل
شكلت السبعينات علامة فارقة في تاريخ الموسيقى المصرية؛ بدأ الأمر بتخلي مشاهير المطربين الكلاسيكين جزئيا عما ألفوه من تقاليد الغناء الشرقي التقليدي، فأدخلت أم كلثوم الجيتار إلى فرقتها الموسيقية، وبدأ عبد الحليم حافظ في التجديد علي مستوي الكلمة واللحن.
رسم موت هذا الثنائي -مع فريد الأطرش- خطا يفصل بين زمنين حظيت فيهم مصر بالكثير من الحراك الاجتماعي والفكري، في نفس الوقت اختمرت أفكار مجموعة من المطربين والمؤلفين الموسيقين كبليغ حمدي، عبد الرحيم منصور، مجدي نجيب، أحمد منيب غيروا بها وجه الموسيقى الشرقية إلى الأبد.
بدأت إرهاصات هذا التغيير في بعض أعمال هذه المجموعة مع نجاة الصغيرة ووردة ثم ظهر محمد نوح علي الساحة وأخيرا وجدت هذه المجموعة من الفنانين المفكرين ضالتها في زوج من المطربين الصاعدين انتهيا لتوهما من اداء خدمة العلم.
كان محمد منير وعلي الحجار من جيل تحددت مصائره بناءا علي مغامرات سياسية طموحة لقادة سياسين تغيرت فيها سياسات مصر الاقتصادية بين طرفي المقص.
قضي الكثير منهم سنوات طويلة في الجيش ما بين حربين استنفذفتا البلاد، و قبل ذلك قضوا سنوات دراستهم الأولي في ظل نظام اشتراكي يبشر بالمساواة والحرية ويقمع معارضية.
ثم شهدوا انفتاحا اقتصاديا صعد بطبقات قيل لهم في طفولتهم إنها من قاع المجتمع إلى قمته.
شكلت ألبومات منير والحجار ملاذا لهؤلاء الشباب الذين عانوا ارتباكا في علاقتهم بالوطن.
كانت خصوصية منير تكمن في كسره لكل القوالب الموسيقية والصورة الذهنية للمطرب، فهو النوبي اسمر البشرة، الذي لايمتلك وسامة محمد فوزي، ولا ارستقراطية فريد الأطرش، لكنه يملك وجها مريحا وصوتا مصريا يجعل الجميع يشعر أنه جار أو قريب له، لسنوات كان منير حنجرة ذلك الجيل من المفكرين والمجددين الموسيقين والشعراء.
وفي بداية الثمانينات ظهر علي الساحة مطرب شاب آخر من أصل ليبي يدعي حميد الشاعري؛ كان منير والشاعري رواد ما سمي وقتها بـ"موسيقي الجيل".
شهدت الثمانينات وأوائل التسعينات انفتاحا موسيقيا علي صنوف الغناء الغربي، اعتبره الكلاسيكين وأصحاب المصالح إسفافا.
لم يخل شريط غنائي واحد -تقريبا- في السنوات الأولى لهؤلاء الموسيقين من الأغنية الاجتماعية، لم يعد الوطن موضوعا مباشرا للأغاني ولم يعد أيضا رمزا مقدسا، فللمرة الأولي تظهر مصطلحات الغربة والضياع والارتباك، بل ووصل الامر إلى العتاب ("بعتب عليكي" لمحمد منير).
مع مرور الوقت تحولت التيمات الجديدة والمعاني الطازجة إلى قوالب معادة ومحفوظه، لدرجة أن مطربا تجاريا مثل عمرو دياب أصدر ألبوما في بداية السبعينات من كلمات عبد الرحيم منصور ونجيب سرور.
حوالي العام 1990 كان الكثير من صناع هذا التجديد قد توفى أما الباقي فانزوي إلى الظل نتيجة خلافات مع المطربين الذي أصبحوا نجوما، في تلك السنة تقريبا كان حميد الشاعري قد تحول إلى منصة لإطلاق المطربين المتماثلين، وتفرغ علي الحجار لبكائياته بينما بدأ محمد منير رحلة انفتاح على موسيقي العالم محاولا صنع خلطة تجارية ترضي قدامى محبيه وتجذب قطاعات جديدة من المعجبين، وهو ما جره -مع مرو الزمن- إلى الكثيرمن التنازلات التي أضرت بمستواه الفني ووسعت من شهرته بين شرائح الشباب.



فكر جديد
شهد العام 2004 حدثا على المستوى السياسي في مصر، فقد قررت القيادة السياسية أن تكون الأنتخابات الرئاسية بنظام الانتخاب الحر بدلا من الاستفتاء على تجديد مدة الرئاسة.
بالتأكيد لم تختلف النتيجة النهائية كثيرا، لكن الأمر استدعى تجديدا للخطاب الرسمي، ومن ثم تولت مجموعة من الإعلاميين الاحترافيين قيادة حملة الرئيس مبارك بدلا من وجوه ماسبيرو المألوفة؛ في نفس الوقت تقريبا كان جمال -نجل الرئيس الأصغر- يظهر بصورة تدريجية علي الساحة العامة المصرية.
في تلك الحملة التي سبقتها بعام انتخابات مجلس الشعب أطلق الحزب الوطني شعار "فكر جديد"؛ وإحقاقا للحق فإن فكرا جديدا قد طال الأغنية الوطنية منذ ذلك الحين.
التغيير الأكبر كان علي مستوي الصورة، فبالإضافة إلى الألوان الزاهية والمبهجة حفلت الكليبات المصورة لتلك الأغاني بالكثير من الوجوة المليحة الباسمة واهتماما بتصوير ناس سعداء بملابس مهندمة في بيوت ومصانع نظيفة ومنظمة، بالإضافة إلى صور من المعالم الأثرية والمساحات الخضراء.
أما على مستوي الأسماء فقد تم الاستعانة بالنجوم ذوي الحظوة الأكبر في قلوب الشباب، فغنت نانسي عجرم (اللبنانية) وشيرين عبد الوهاب وغيرهم من مطربي الصف الأول عربيا حبا في الوطن (المصري).
أما علي مستوى الكلمة فقد كان واضحا أن درسا تم تعلمه من كل ما حدث في السنوات السابقة، هذه المرة كان التركيز علي كسب تعاطف الناس و إنعاش ذاكرتهم بكل اللحظات اللطيفة التي عاشوها في هذا البلد ("ما شربتش من نيلها" لشيرين مثلا)، أما الرسالة الرئيسية في هذه الأغاني فهي الصبر إذا ما ضاق الحال لفترة قصيرة ("بلدنا في القلوب متشالة، و لو ضاقت عليها الحال") علي وعد بمستقبل باهر والدعوة إلى المشاركة في صنع هذا المستقبل.
بالإضافة إلي تلك الدروس الوطنية والرسائل الإيجابية الجديدة من نوعها تصدر منتخب كرة القدم واجهة الساحة وصار الرمز الأكبر للوطن.
استغل صناع هذه الأغاني الانتصارات القارية والعالمية للفريق في توحيد الشرائح الشابة للغناء لهؤلاء الأبطال، بل قام الكثير ممن يمكن وصفهم بمطربي الطبقة الدنيا الوسطي كمصطفي كامل وحمادة هلال وسعد الصغير بإنتاج أعمال وجهت خصيصا للمنتخب، ولعل أغنيتي "أبو تريكة" و"المعلم" حسن شحاتة مثالان واضحان لهذه الموجة التي جعلت من لاعبي الكرة رموزا وطنية في مكان القيادات الرسمية والفكرية التي كانت تحتل الصدارة سابقا.
وفي نهاية المطاف لا يمكننا الخروج بحكم قاطع علي التجربة، فعلي قدر ما حظيت به من تعاطف وبقدر ما جذبته من جمهور، اعتبرها الكثير "كيتشا" وطنيا أو مخدرا.
ولعل ذلك المشهد الساخر من فيلم "واحد صفر" الذي يظهر فيه الممثل لطفي لبيب -الذي كان يقوم بدور "سائس سيارات خلال حياتة اليومية- دليلا علي عدم اقتناع شريحة ما أو اكثر من المجتمع بتلك الرسائل.
قبل ذلك بقليل(2002) بدأت الثقافة تتحول إلى سلعة وخدمة تطلبها شريحة من المجتمع، فافتتحت "ساقية عبد المنعم الصاوي" بالزمالك ومساحة "التاون هاوس و روابط" بوسط القاهرة، وكانت تلك المنافذ تحريرا نسبيا للفنانين المستقلين من سيطرة قبضة الدولة على الفن، وبعد حوالي عقد -زادت فيه هذه المنافذ بشكل لافت- ظهرت الكثير من الفرق والموسيقين المستقلين أعاد بعضهم إنتاج نسخ باهتة من أغاني الثمانينات الاجتماعية، وتشرب البعض الآخر تراث المعارضة فقدمه بشكله الأصلي الذي لم يعد يواكب العصر على المستوى الفكري والموسيقي بينما استطاع القليل التعبير عما يحدث في مصر الآن، وحملت أعمالهم وجهة نظر هذا الجيل عن الوطن والوطنية والمواطنة.