نشر هذا المقال بموقع قل
الأسبوع الماضي، و إثر خلاف على أولوية
المرور(*)، قامت معركة بين سائق شاحنة خمسيني في مواجهة شاب جامعي مفتول
العضلات و أمه. السائق العجوز حاول الحفاظ علي كرامته بتجنب الدخول في التحامات
جسدية يعلم نتيجتها مقدماً، أما الشاب فكان منفلت الأعصاب بشكل مبالغ فيه. رغم
المحاولات المضنية من سائقي السيارات المحيطة لمنعه، أخذ يحاول الوصول إلى الرجل
لضربه بواسطة عصا مزودة بمسامير معدنية سحبها من تحت مقعد القيادة. الأم خلعت
حذائها ذو الكعب العالي و اشتركت بحدة في المعركة و هي تكلم شخصا ما في الهاتف
مؤكدةً له أنها وولدها يواجهان خطر الموت. بعد حوالي 15 دقيقة، وصل إلى الساحة
ولدها الثاني و الذي كان أضخم جثةً من شقيقه، مستغلا عامل المفاجأة استطاع تخطي
الجموع و تسديد ضربة محكمة بواسطة عصا حديدية إلى رأس السائق الذي "طب
ساكت" غارقاً في دمائه.
عنئذ، خيم الصمت على المشهد لثوان معدودة
قبلما يرتفع صوت الأم مرددة بهيستيريا لا تتوقف: "مات يا محمد، مات يا محمد،
ليه يا محمد!".
قبل ذلك بحوالي شهر، كنت مضطراً للقيادة إلى
الاسكندرية لظرف عائلي لا يمكن تأجيله. بمتابعة مواقع الأرصاد الجوية عرفت قبل
الرحلة بـ4 أيام أن الجو سيكون ممطراً بشكل استثنائي فاتخذت إجراءات الصيانة
اللازمة لسيارتي. على طول الطريق الدائري ثم لاحقاً على الطريق الصحراوي اللذان
امتلئا ببرك المياة و الحفر و السيارات المعطلة و الحوادث سيطرت عليّ فكرة واحدة:
لو أن المناخ المصري كان أكثر تقلباً أو صعوبة، كم روحاً كنا سنخسر بشكل يومي ؟
في اليوم نفسه كان 8 من الشباب المصري قد ضلوا
طريقهم في محيط جبال "سانت كاترين" بسيناء أثناء رحلة
"هايكينج" نظمتها إحدى مجموعات تنظيم الرحلات التي انتشرت على
الفيس بوك في السنة الأخيرة. بعد 3 أيام من الشد و الجذب استطاع الجيش الوصول إلى
4 أحياء و العثور على باقي الجثث. تبادلت مختلف الأطراف الاتهامات. فمن ناحية اتهم
أصدقاء المنظمين و المتوفين الدولة / الجيش بانعدام الكفاءة والبطء في إتخاذ
الإجراءات مما أودى بحياة أصدقائهم. أما الهواة المتمرسون في نشاطات الخروج إلى
الخلاء فلاموا منظمي الرحلة و الأدِلّاء البدو بشكل أساسي و المشتركين بشكل ثانوي
لأسباب عديدة مثل تنظيم الرحلة في موسم يعرف الجميع أنه قاسي المناخ في تلك
المنطقة و بسبب عدم متابعة مواقع الأرصاد الجوية التي انبأت بوقوع عاصفة في الوادي
الذي ضلوا الطريق فيه بالإضافة إلى عدم إتخاذ أي احتياطات أمان مثل اصطحاب
عدد كافي من الأدلاء و الملابس و المؤن و عدم حملهم لجهاز هاتف متصل بالأقمار
الصناعية.
الموقفان السابقان ليسا سوى مجرد مثالان لسلوك
يومي لعموم المصريين نشاهده يحدث أمام كل منا عشرات المرات يوميا. في السنين
الأخيرة تخطى الناس كل الحواجز التي يمكن للعقل البشري استعابها في
إنعدام المنطق و إيذاء النفس و الغير. نحن أمام شعب اتخذ من
الـ"عك" و العشوائية رياضة شعبية تمارس علي نطاق واسع. في العمل،
المترو، الشارع، البيت، المقهى يقوم الجميع بتصرفات بدون تفكير ثم يندهشون من
عواقبها الغير متوقعة!!
العرض
المخبول يتشارك في تقديمه الجميع، من أكبر شخصية عامة أو مسؤول في الدولة
الى أصغر طفل شارع. و في كل مرة، عند حدوث المصيبة، ينظر الجميع إلى بعضهم في ذهول
و ندم و على وجوههم تعبير: "مات يا محمد". فترى شباب يصعد إلى قمة جبل
في موسم العواصف بدون مراجعة لتوقعات الطقس. أم تحرض أبنائها لعقاب شخص قالت
أنه يعتدى عليها ثم تفاجأ أنهم ضربوه حتى الموت. مسؤولي دولة يختلسون من ميزانية
رصف الطرق و ينشؤن شوارع غير صالحة للاستخدام ثم يسيرون عليها بشكل يومي.
شباب حديث الزواج يتفاجأ لحدوث حمل رغم عدم اتخاذهم أي احتياطات أمان قبل
ممارسة الجنس.عرض لا يتوقف من سيمفونية عبث يعرض فيها الجميع حياته و حياة من
حوله لأخطار قاتلة باستهتار لا يُصدق.
إن
استمرار الحياة بشكلها البدائي (الأكل و الشرب و الجنس) علي هذه المنطقة من الكوكب
حتى لحظة كتابة هذه السطور هو محض معجزة كريمة من الخالق / الطبيعة. و إذا استمرت
الأمور في السير في نفس الطريق فبلا مبالغة, يبدو الانقراض (أو على أحسن التقدير
موت عدد كبير من السكان) نتيجة متوقعة في بلد يعاني من "كوكتيل"
من المشاكل المعقدة التي تبدأ بانهيار البنية التحتية ولا تنتهي بفقر مزمن
في الموارد الأساسية من ماء و غذاء تبدو الخصال البشرية السيئة من نوعية
الغباء و العناد و انعدام الكفاءة ترفا غير ممكن إحتماله.
(*)حدثت هذه
القصة الأسبوع الماضي على الطريق الدائري و كان شاهدا عليها زميل عمل أضاع من وقته
ليلتان بسبب إصراره على الإدلاء بشهادته أمام النيابة.
No comments:
Post a Comment