نشر هذا المقال بموقع المنصه.لقراءة النص الأصلي برجاء الضغط هنا
مع كل نهار جديد، تسارع شرائح جديدة في مختلف عواصم العالم إلى محاولة ركوب موجة الاستثمار في العملات الرقمية المشفرة Digital Cryptocurrency(*) والتي تتصاعد قيمتها بشكل مجنون، ولا يختلف الحال في مصر، البلد المفتون بأحلام الثراء السهل، عمّا يجري حول العالم، إذ انتشرت بين طبقات مختلفة من الشباب والمغامرين مصطلحات كهنوتية غامضة، مثل BitCoin, Block Chain, CryptoCurrency، وتناثرت حكايات كثيرة عن شباب أصبح مليونيرًا بعد أن استثمر عن طريق "التعدين".
حكايات على المقاهي، على يوتيوب، شباب متحمس بعوينات أنيقة يتحدث بسرعة وثقة عن المستقبل الذي ستختفي فية كل العملات الوطنية وتغلق البنوك أبوابها، إنهم مؤمنون تمامًا بأن بيتكوين سيضع حدًا لكل ذلك.
ومع كل ارتفاع في أسعار بيتكوين، يبحث البعض عن أقاربه الشباب ممن بدأوا "اللعبة" من قبله، ليستثمروا له أمواله معهم أو يعلمّوه كيف يستمثرها بنفسه، بينما يترقب البعض الآخر بقلق لحظة انفجار فقاعة الصابون هذه وهو يسترجع سلسلة طويلة من عمليات النصب التي خسر فيها عشرات آلاف المصريين مدخراتهم، بدءًا بما سمي "استنساخ النقود" بواسطة سحرة أفارقة في التسعينات، وليس نهايةً بمواقع التسويق الهرمي من نوعية "كيونت"، مرورا بالتجارة في ما سمي بالزئبق الأحمر وكروت شحن خطوط الاتصال وحتى الآثار المهربة.
قصة النقود
على كل حال، قبل الحديث عن ظاهرة العملات المشفرة لابد من التسليم بأن الاقتصاد أصلًا ليس علمًا رياضيًا بحتًا يمكن تمثيله بمعادلات منضطبة ذات نتائج ثابتة، لكنه نتاج هش لخليط من السياسة وعلمي النفس والاجتماع، تتفاعل خلاله أعداد غفيرة من البشر تتأثر بالشائعات وتحركها غريزتان بدائيتان؛ الطمع في تعظيم الربح، والخوف من خسارة ما في اليد.
على سبيل المثال، لو قررت أغلبية مودعي أحد البنوك سحب أرصدتها في وقت واحد نتيجة شائعة غير صحيحة عن إفلاسه، فلن يكون بإمكان هذا البنك الوفاء بوعد الدفع لمودعيه، وذلك لأن قدرًا محترمًا من هذه الأموال خرج مؤقتًا من خزائنه في عمليات إقراض وتمويل. وبالتالي فقد يضطر هذا البنك، فعليًا، إلى إعلان إفلاسه.
لفهم التغييرات والتهديدات التي تمثلها تلك العملات الرقمية على الاقتصاد العالمي، ينبغي علينا أولًا فهم كيف تعمل تلك الماكينة.
بدأ الأمر عندما اتفق الناس على أن الذهب والفضة معادن نادرة يصعب العثور عليها، وبالتالي يمكن استخدامها كمعيار للقيمة في عمليات المقايضة. وعلى الأثر وكنتيجة لذلك، بدأ الحكام في صك العملة؛ وحدات ثابتة الوزن من تلك المعادن يساوي كل منها قيمة شرائية ثابتة. حتى أضحت تلك المعادن مخزنًا للقيمة في حد ذاتها. لكنها أيضًا لا تملك أي قيمة حقيقة أبعد من اتفاقنا جميعا على جعلها ذات قيمة.
لاحقًا جاء الورق النقدي (البنكنوت)، و هي "صك ضمان" لحامله يصدره الحاكم، يثبت أن حامله يمتلك قدرًا من المعادن النادرة ويعده بتقديم هذا القدر عند تقديم هذا الصك. إذن العملة الورقية ليست في حقيقة الأمر أبعد من "وعد بالدفع"، ورقة وقعها ممثل حكومة دولة اتفق مواطنوها على أن لديها الرشد الكافي والرغبة في تنفيذ وعدها، رغم أن كثيرًا ما حدث أن حكومة ما لم تعد قادرة على أو راغبة في تنفيذ وعودها، فخسرت عملتها أو جزءًا من قيمتها بين ليلة وضحاها.
منطق "الوعد بالدفع" هذا، مع ما يحمله من مخاطر، ينسحب على أغلب أنواع المعاملات والاستثمارات المالية، من الشيكات البنكية وحتى أسهم البورصة، مرورًا بشهادات التأمين والعقود وغيرها.
قبل أي شيء، لا شك في أن "البنكنوت" سيظل هو الملك المتوج على عرش عالم المال والأعمال لعقود قادمة حتى مع الزيادة المستمرة في عدد مستخدمي وسائل الدفع الإلكترونية. فالورق النقدي سهل التداول والتخزين بعيدًا عن أعين الشرطة وممثلي هيئات الضرائب، كما أن السواد الأعظم من سكان العالم لا زال يجهل مبادئ المعاملات الرقمية. لذا فإن أقصى ما يمكن لأي وسيط إلكتروني جديد الوصول إليه هو مزاحمة الوسائط الموجودة علي الساحة!
ما هو بيتكوين؟
بالعودة إلى أصل الموضوع؛ فالوسيلة الأمثل لوصف العملات المشفرة هو اعتبارها "اختراعًا" يجمع بين كونها "نظام دفع"(ككروت الائتمان) و"حافظة مالية" (كأسهم البورصة) في آن!
عام 2009 بدأ مهندس برمجيات أو فريق مجهول الهوية، في خلق أول عملة مشفرة غير مركزية "بيتكوين"، مستخدين هوية مستعارة هي شخصية Satoshi Nakamoto. بعد نجاح الفكرة خرجت إلى الوجود عملات أخرى على نفس الطراز مثل Monero وEthereum.
كان هدف Satoshi هو خلق وسيط رقمي، مؤمن، آني، موثق وخارج سيطرة المؤسسات المتحكمة في الاقتصاد العالمي. وسيلة يمكن لأي شخص باستخدامها أن يشتري أو يحول نقودًا عبر العالم ويضمن وصولها إلى المتلقي في وقتٍ قليل، بدون الاضطرار للتعامل مع البنوك أو الحكومات أو شركات نقل الأموال!
يمكن الاتجار في بيتكوين وغيره من العملات عبر مواقع/منصات رقمية، مقابل أنواع أخرى من العملات الرقمية، أو مقابل عملات كلاسيكية، ثم تخزينها في محافظ رقمية مؤمنة Digital wallet على أجهزة المشترين. كل هذا بدون أي تدخل أو مراقبة من حكومات الدول أو البنوك. مما أثار جنون كل تلك المؤسسات التي أحست بخطر وجودي يهدد النظام الاقتصادي العالمي من جذوره.
لتطبيق هدفه، استعار Satoshi مبدأين مهمين من مبادئ هندسة البرمجيات، وهما مبدآن مستخدمان بالفعل منذ سنوات في العديد من التطبقيات، كتلك التي تتحقق من بيانات الناخبين أو مثل تبادل الملفات عن طريق التورنت. الأول هو التعمية/التشفير Cryptography، و معناه أن جميع بيانات برنامج معين يتم تخزينها وتبادلها بصورة مشفرة وآمنة. أما الثاني فهو الثقة اللامركزية decentralized trust، أي نسخ وتبادل تلك البيانات على أجهزة حواسب المستخدمين بدون وجود هيئة رئيسية تحتكرها.
يتم تحديث تلك البيانات شكل دوري ثم التحقق من صحتها عن طريق عمليات مراجعه أوتوماتيكية تستغرق ساعات طويلة، تقوم فيها الحواسب بعدد مرعب من العمليات الحسابية المعقدة، ثم مقارنة النتائج لاستبعاد وحذف البيانات المزيفة، تماما كمجموعة من الشركاء يحتفظ كل واحد منهم بنسخة من كل فواتير البيع والشراء لأنه لا يملك ذرة ثقة في بقية الشركاء.
بالتالي، يمكن القول بأن أي عملة مشفرة هي -باختصار مخل- برنامج يتم تشغيله على أجهزة حاسبات آلية متصلة بالإنترنت، يحتوي على نسخة مما يسمي بـblock Chain، وهو كراسة ضخمة (دفتر أستاذ عام بلغة المحاسبة) تكتب فية تاريخ وقيمة كل عملية نقل ملكية حدثت منذ ظهر هذا البرنامج إلى الوجود (مثلًا، أعطى "محمد" إلى "مينا" خمس عملات بيتكوين بتاريخ 18 فبراير/شباط 2018 في تمام الساعة الثالثة والنصف). ويترجم هذا إلى ملف إلكتروني ضخم تعدى مئتي جيجابايت في حالة بيتكوين.
بعد نجاح كل عملية شراء، ترسل تلك المنصات رسالة تحديث إلى الحواسيب التي تبرعت بتشغيل البرنامج لتحديث نسخة الـBlock Chain علي قرصها الصلب، ثم تبدأ كل منها في عملية التحقق من صحة البيانات (أو التعدين mining حسب قاموس المجال) لحماية المستخدمين من عمليات القرصنة الإلكترونية واستبعاد المعاملات المزيفة كما شرحنا سابقا.
يكافئ كل أصحاب هذه الحواسيب، والتي تقدر بين عشرة آلاف إلى مئة ألف جهاز فائق القدرة، بإضافة قدر من تلك العملة إلى رصيدهم، بدورهم، يمكنهم عرضه للبيع عبر المنصات الإلكترونية أو استخدامة لشراء أنواع أخرى من تلك العملات.
قيمة وتحديات بيتكوين
للوهلة الأولى يبدو الأمر كفقاعة بيع وشراء لـ"فنكوش" إلكتروني لا قيمة حقيقية له، لكن علينا تذكر أنه حتى الأموال التي تخفيها "تحت البلاطة" خوفًا من غدر الزمان ليست أكثر من "حبر علي ورق"، وأن القيمة الحقيقة لأي وعاء استثماري هي ندرته الطبيعية واتفاق قطاع كافٍ من الناس على جعله "مخزن قيمة".
في حالة بيتكوين مثلًا، صمم مبتكروه برنامجهم بحيث يتوقف عن توليد عملات جديدة بعد خلق 21 مليون وحدة منها، يعني هذا أن أقصى ما يمكن الحصول عليه بعمليات التنقيب حتى نهاية الزمان محدود ونادر، تمامًا كالذهب!
مربط الفرس إذن هو مسألة اتفاق عدد كافٍ من البشر على جعل أي وحدة مخزنًا للقيمة، ووضع ثقتهم في برنامج الكتروني صنعه مجهولون!
العملات المشفرة تواجة اليوم عدة تحديات كبرى، لو استطاعت أن تتخطاها ستقتطع جزءًا لا يستهان به من أسواق المعاملات المالية.
التحدي الأول هو قدرة السوق على طمأنة جماهير المستثمرين وإقناعهم بضخ ما يكفي من أموال ليصبح هذا السوق جزءًا حيويًا لا يمكن الاستغناء عنه من الاقتصاد العالمي. وحتى بلوغ تلك النقطة، تظل منحنيات انخفاض أسعار تلك العملات، وآخرها كان في يناير/ كانون الثاني الماضي، أوقاتًا صعبة تهرب فيها كميات من رؤوس الأموال إلى أوعية ادخارية أخرى، مما يمكن أن يجهز على هذا السوق الهش.
التحدي الثاني هو الصراع مع قوى العالم القديم مثل الحكومات وكبار الشركات. في البداية قررت القوى التقليدية سحق هذا الطرف الذي يعتقد في قدرته على نزع جهاز التحكم من أيديهم. ثم مؤخرًا بدأ كل طرف يتقبل فكرة التعايش مع الآخر. والآن، بدأت نفس تلك الهيئات في ركوب الموجة عبر الاستثمار المبكر فيها مع محاولة خلق ضوابط تجعل اللعبة تعمل وفقا لمصالحها.
أما التحدي الثالث والأكثر خطورة هو تحدي تقني بحت. تحتاج عمليات التنقيب الألكتروني الي حواسيب كبيرة القدرات تعمل بكامل طاقتها لساعات طويلة وتستهلك قدرًا غير هين من الكهرباء، وفي المستقبل قد تصبح تكلفة عمليات التنقيب أعلى من ذلك القدر الذي يضاف إلى رصيد المنقبين بعد انتهاء عمليات المسح والتدقيق. وبالتالي يصبح الأمر كله غير ذي عائد اقتصادي، إلا إذا استطاعت التكنولوجيا خلق جيل جديد من الحواسيب القادرة على معالجة البيانات بسرعة عالية بدون استهلاك كمية عالية من الطاقة.
بالنظر إلى كل تلك التحديات الشائكة، يبدو السوق الوليد سوقًا استثماريًا عالي الخطورة لكنه سريع وعالي على صعيد المكاسب! فالمتغيرات التي تحتويها تلك المعادلة كثيرة ومعقدة، كما أن أغلبها نفسي واجتماعي ليس تقنيًا أو حسابيًا. لذلك لا يستطيع أحد التكهن بالمستقبل وحسم ان كانت العملات الرقمية المشفرة مجرد فقاعة ستنتهي، أم أنها سوق مستقر للاستثمار!
(*) فضّل الكاتب استخدام مصطلح "تشفير" عوضًا عن "تعمية" لتعريب كلمة Cryptography، لسهولة وقعه على القارئ العربي.
No comments:
Post a Comment