Saturday, January 24, 2015

فريد سميكة



نشر هذا المقال بموقع جريده المصري اليوم.للأضطلاع علي الأصل برجاء الضغط هنا
قالت العرب قديمًا: لكل نصيب من اسمه، وفريد سميكة لم يكن استثناءً، فالطفل المولود بالإسكندرية في أوائل القرن العشرين (1902) كان فريدًا بحق، كما نال نصيبًا من لقب العائلة «سميكة» القريب في نطقه إلى «سمكة» كأحد أهم متسابقي الرياضات المائية في تاريخ أفريقيا والشرق الأوسط. لكنة فوق كل ذلك، لم يكن مجرد بطل رياضي عالمي آخر، فالرجل عاش حياة صاخبة ومليئة بالأحداث المتناقضة التي تواترت عنة الأخبار والشائعات لتجعلها أقرب إلى فيلم هوليوودي.

ولد فريد لعائلة قبطية عريقة، يستقر إلى اليوم تمثال من نظن أنه عمه، مرقص باشا سميكة (عضو مجلس الشورى ومدير مصلحة السكة الحديد)، في المتحف القبطي تقديرًا لجهوده في إنشاء المتحف وإثرائه بالعديد من القطع الأثرية من مقتنياته الشخصية.

في الإسكندرية عاش فريد طفولة مخملية، ألحقه فيها أبوه مدير الجمارك، باسيلي بيك سميكة، بمدارس النخبة فأتقن الفرنسية والإنجليزية.

تعلم فريد السباحة في المدينة الساحلية ثم استهوته رياضة الغطس. بعد انتقال العائلة إلى القاهرة أدمن الشاب موفور الصحة والمال نشوة الأدرينالين مدعوما بثروة و«عزوة» عائلته، فتفرغ للتدرب على رياضته المفضلة بالإضافة إلى حصوله على رخصة طيران شراعي.

بدخوله عامة السادس عشر كان الفتى شخصية عامة بفضل استعراضات القفز في الماء التي كان ينظمها على شاطئ «بير مسعود» بالإسكندرية وفي نادي الجزيرة بالزمالك والتي كانت تجذب جمهورًا غفيرًا وجعلت المعجبات يتهافتن عليه.

لكن الأدرينالين كانت له جوانب سلبية أيضًا. يحدثتا الكاتب الراحل هاني درويش في كتابه «إني أتقادم» على لسان أحد قدامى سكان منطقة المطرية (والعهدة هنا على الراوي) عن قصرالسميكة (بُني نادي المطرية على أنقاضه)، وعن والدة فريد الأرمينية، حسب الشاهد، والتي أقسم ولدها أن يقتل أي متعدٍّ على حديقة السراي بعدما تكررت حوادث السرقة من قبل بعض سكان المنطقة. في ليلة شتوية باردة، صوب الشاب بندقيته إلى الظل الذي يحاول القفز فوق السور وأرداه قتيلًا بإصابة مباشرة. وبعد مفاوضات شاقة بين عائلة القتيل و«المدام»، تم الاتفاق على التنازل عن قضية القتل العمد مقابل التنازل عن قطعة من أرض الحديقة للعائلة.

مدفوعًا برغبته في التدرب تحت إشراف المدرب الأمريكي العالمي جيم ريان، وربما أيضًا بسبب تلك الحادثة (في حالة وقوعها من الأساس)، انتقل فريد إلى الولايات المتحدة. استمر هناك في التألق الرياضي وحصل على المركز الثاني في مسابقة أمريكا للقفز من السلم المتحرك عام 1927. وفي العام التالي مثل مصر في أوليمبياد أمستردام ليسجل اسمه إلى جوار إبراهيم مصطفى وسيد نصير كأول من رفع علمًا عربيًا وأفريقيا في المحفل الأوليمبي بفضية وبرونزية في مسابقتي السلم الثابت والمتحرك.

القصة لم تخل من الدراما الحريفة، فبعد إعلان الحكام حصوله على المركز الأول، وأثناء مراسم تسلم الميدالية، أوقف النشيد الملكي المصري بناءً على اعتراض من منافسه الأمريكي بيت دي جاردان. وبعد «مراجعة» الحكام للنتائج، قررت اللجنة سحب الميدالية الذهبية من اللاعب المصري ليكتفي بالفضية!
على كل حال لم تكن حياة فريد في الولايات المتحدة مجرد تمارين رياضية مستمرة، فبالإضافة لفوزه ببطولة أمريكا عدة مرات، فقد انخرط الرجل في أوساط السينما والمشاهير. فشارك في فيلم المغامرات الشهير Seas Beneath كأول مصري وعربي يقف أمام الكاميرا في هوليوود، وتروي بعض المصادر اعتماد مخرجي هوليوود عليه للقيام بدور بديل المشاهد الخطرة (دوبلير) في العديد من الأفلام أشهرها «طرزان». تخلل ذلك زواجه الأول عام 1929 من مابيل فان إيكي، ابنة تاجر المجوهرات الهوليوودي الشهير. وهو زواج لم يدم سوى سنتين تحصل خلالهما على لقب بطولة العالم وبطولتي أمريكا واليابان التي أصبح معبود جماهيرها.


بعد اعتذار الرياضيين المصريين عن الاشتراك في أوليمبياد 1932 احتجاجًا على تمثيل اليوناني المصري أنجلو بولاناكي للمملكة في اللجنة الأوليمبية، اعتزل فريد غاضبًا واكتفى برصيده من البطولات ليتفرغ للعروض الاستعراضية. في سنة 1934 قام برحلة حول العالم مع زميله هارولد سميث أبهرا فيها كل من شاهد عروضهما في الغطس المزدوج، ثم لاحقًا قاما برحلة مماثلة عبر الولايات المتحدة أقاما خلالها عروضًا كرنفالية لتحفيز الشباب على ممارسة تلك الرياضة. كانت تلك النقطة الفاصلة في تحول فريد إلى شخصية عامة في أمريكا الشمالية وأيقونة للجيل الجديد من الغطاسين في العالم كله، حتي أن سامي لي، أول رجل غير أبيض يفوز بميدالية أوليمبية في رياضة مائية، اعترف في مقابلة لمجلة «السباحة العالمية» ذائعة الصيت أن فريد كان بطل طفولته وأنه تنبأ له بأنه سيكون بطلًا أوليمبيًا.

في العام 1935، وبالتوازي مع التحاقه بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس كطالب ومدرب لفريقها، تزوج فريد للمرة الثانية من الآنسة بيتي ويلسون، وقد كان الزواج موعدًا جديدًا مع الدراما. رفضت حكومة الولاية تسجيل عقد الزواج لأن قانونها كان يمنع زواج القوقازيين بغيرهم من الأعراق. لذا كان على «سميكة» خوض نزاع قانوني استمر شهورًا قبل أن تقر المحكمة بأن: «المصري يتمتع بأصول قوقازية كون المصريين هم أحفاد الفرعين السامي والحامي من العرق القوقازي»!

عاد فريد، ربما للمرة الأخيرة، إلى بلده الأم في السنة التالية ليدرب الفريق المصري في أوليمبياد برلين 1936. عقب ذلك احتفل بميلاد ابنه الأول ثم شارك بقفزاته في زوج من الأفلام الوثائقية الشهيرة من إنتاج «مترو جولدن مايرز» عن رياضة الغطس («الغطس المزدوج 1939» و«الرياضات المائية» 1941).
الحرب العالمية الثانية كانت بداية الفصل الأخير من الحكاية الأسطورية. ربما بحثا عن مغامرة جديدة تعيد تدفق الأدرينالين إلى جسده، وربما إيمانًا بقضية، التحق «سميكة» بالجيش الأمريكي في صيف 1942. بعد شهور من التدريب المتواصل، وبسبب معرفته السابقة بالطيران، حصل على رتبة ملازم ثان بسلاح الجو الأمريكي. لا تتوافر معلومات رسمية حول المهام الموكلة إلى رجلنا، لكن مذكرات قدامى المحاربين تشير إلى دوره كمصور جوي لمواقع اليابانيين.

في وقت غير معلوم من نهاية عام 1943 سقطت طائرة مقاتلة من طراز «B -42» كانت تقل فريد. تؤكد التقارير وقوع الحادثة في آسيا لكنها تتضارب حول تحديد الموقع الدقيق بين «غينيا الجديدة» وإندونيسيا. واعتبرته الولايات المتحدة «مفقودًا أثناء العمليات». أصبح فريد أسير حرب بيد اليابانيين الذين كان يتمتع بشعبية طاغية في بلادهم قبل الحرب. يروي الغطاس التاريخي سامي لي في الحوار المذكور سابقًا أنه التقى مصادفة في أحد المستشفيات بقائد السرب الجوي الذي يضم طائرة فريد. وأنه أخبره أن سباحًا أوليمبيًا أمريكيا آخر وقع في يد اليابانيين أثناء الحرب واقتيد إلى نفس معسكر الاعتقال الذي قضي فيه فريد فترة من الزمن. وأنه عند دخوله إلى المعسكر شاهد مجموعة من الرؤوس المقطوعة علقها اليابانيون على أسوار المعسكر لإثارة ذعر الأمريكيين تعرف منها على رأس صديقه السابق!.

لاحقًا استطاع «لي» الوصول إلى عائلة الفقيد وأخبرهم بالقصة. بدورهم أخبروه أن الحكومة الأمريكية اعتبرتة شهيدًا في العام 1945 وكرّمته بوسام عسكري. أخبره ابنه الذي أصبح بدوره طيارًا مقاتلًا أنهم ظنوا أنه قتل في مكان ما من شمال أفريقيا على أيدي الألمان أو الإيطاليين بعدما أجبروه على العمل كمترجم.

لا نعرف الكثير عن الشهور الأخيرة في حياة فريد، كيف كانت حياته في المحبس، هل تم قطع رأسه لأنه حاول المقاومة أم رغبة سادية لحراسه. في الوقت ذاته لا يعرف أغلب المصريين شيئًا عن الرجل الذي تأثرت به مدرسة الغطس الآسيوية الشهيرة حتى اليوم. يظن أغلب سكان شرق القاهرة أن «الشهيد» فريد سميكة الذي أطلق اسمه على أحد الشوارع الرئيسية هناك هو أحد شهداء حرب فلسطين! وربما يكون هذا المقال فرصة لتسليط الضوء على أول مصري وعربي تقلد لقبًا أوليمبيًا، وأول مصري وعربي دخل إلى هوليوود. لكن الأكيد أن قصة فريد سميكة مجرد مثال على كسل صناع الدراما التاريخية المصرية واستنساخهم الباهت للدراما التركية بدسائس نساء أسرة محمد على أو على إصرارهم على «نحت» مناطق بعينها في التاريخ المصري تم عصرها حتى صارت كيتشًا ثقيل الظل في بلد ربما أصبح لا يملك سوى سلة مليئة بالحكايات المدهشة.

No comments:

Post a Comment