بعد منتصف ليل شارع القصر العيني الحاضن لمبني مجلسي الشعب و الشوري و الفاصل ما بين قلب القاهرة المسمي ب"وسط البلد" و حيا جاردن سيتي و المنيرة الهادئين.
كنت قد انتهيت لتوي من تناول عشاء دسم بحي السيدة زينب و قررت التريض وحدي الي وسط المدينة حيث تركت سيارتي القديمه بينما فضل الرفاق اللحاق بقطار المترو الأخير.
كنت قد أغلقت لتوي فصلا من تاريخي المهني ,ولما كان مقر عملي السابق في حي جاردن سيتي,فقد اعتدت المرور بالشارع في مختلف اوقات النهار ,و بما اني من معتادي الأختلاف علي مقاهي و مطاعم و مشارب وسط المدينة فقد الفت ايضا المرور عبرة في ساعات الليل.
كان الشارع في هذا المساء و قد عاد لهيئتة الأولي و كـأن شيئا لم يدر هنا حتي البارحه. في مثل هذا الوقت من مسائات الشهورالسابقة كان المار سيفاجيء سيفاجيء بالكوردون الحديدي و البشري(من جنود الأمن المركزي) المحاصر للأجساد المكومة تحت الأغطيه علي الرصيف الموازي لمبني المجلس الموقر.صحيح انة , و الحق يقال ,لم يعكر النائمين صفو هدوء الشارع ,و لكنك حتما كنت ستحس جوا من التوتر خلال مرورك بالمكان. تناوب علي احتلال هذا الحيز المكاني عمال عدة مصانع تم تصفيتها من قبل مالكيها بدون اعطائهم حقوقهم التي ينص عليها قانون العمل.شارك هؤلاء العمال الأعتراض موظفي مجموعة من الهيئات الحكوميه.تطور الأمر بعد مظاهرة المطالبة بحد ادني للأجور في الثاني من مايو,الموافق لعيد العمال, والتي شارك فيها العديد من نشطاء حقوق الأنسان,ليصل اجمالي المتظاهرين وقتها الي زهاء الألف,و هو رقم كبير بمقاييس المظاهرات في مصر.
بعد يوم واحد من خطبة رئيس الجمهورية بمناسبة عيد العمال,صعد المعتصمين من تحديهم للحكومة,ارتدي بعضهم ملابس ممزقة و ربط بعضهم جسدة بحبل الي عامود انارة بينما قرر الأخرين قطع الطريق و ايقاف سير السيارات.أعتبرت الحكومة هذا التصرف الأخير تخطيا للحدود الحمراء و قررت انهاء الأعتصام,استخدمت بالطبع القوة الجسدية ,التي وصفها البعض بالمفرطة.علي اي حال اتهمت الحكومة المتظاهرين بتعطيل المرور و مقاومة السلطات.
وفقا لبعض الشائعات فأن الحكومة قد اتخذت التصعيد الأخير ذريعة لفض الأعتصام,بينما كان السبب الحقيقي هو أخلاء المنطقة قبيل زيارة رئيس الوزراء الكيني لمصر علي خلفية ازمة مياة النيل المتزامنة مع الأعتصامات.ذكرني الحادث بقصه "كنس" اللاجئين السودانين من امام مسجد مصطفي محمود في الواحد و الثلاثين من يناير 2005.كنت وقتها أستعد للاحتفال بقضاء سنتي الأولي في القاهرة,و كان طريق العودة من مقر عملي الي سكني يمر عبر حي المهندسين الراقي.وقتها تجمع ما يزيد عن الألف لاجيء سوداني في الحديقة المواجهة للمسجد الذي يقع بجانب المفوضية العليا للاجئين اعتراضا علي وقف الأمم المتحدة صرف الأعانات لهم. اشهد لهؤلاء اللاجئين, مثلما أشهد لعمال القصر العيني, بعدم ميلهم الي بدأ المشاكل مع الأهالي .الحق أني ايضا اشهد ,علي عكس معتصمي المجلس, بنظافتهم و هدوئهم و تنظيمهم (كان يبدو لي احيانا و كأن العمال القادمين من قري و المدن الصغيرة و المناطق العشوائيه مستمتعين بمشاكسة الحكومة و تناول وجبات الكشري و مغالظة الصبايا المارات حولهن),قبل ليلة واحدة من الأحتفال برأس السنة الميلاديه,قررت الحكومة ان صبرها نفذ و قامت بتنفيذ وعيدها.احاط المئات(و قيل الألاف) من قوات الأمن المركزي بالحديقة و بدؤا في رش اللاجئين بالمياة من الخراطيم التي تستخدم عادة في اطفاء الحرائق.تلي ذلك الهجوم التكتيكي اشتباك ميداني شحن علي اثرة اللاجئين في مركبات الي معسكرات ايواء بدون اي مراعاة لتسكين الأسر في مكان واحد.كانت حصيلة فض الأعتصام ,حسب الروايات الرسميه 27 قتيلا.و في الحقيقة لم استطع متابعة ما تم بعدها بسبب ضغوط العمل التي ظللت ارزح تحتها لسنين طوال.
مشهد فض الأعتصام كان ختاما لمسلسل طويل من الخصام و التصالح و العاب السياسة بين الحكومتين المصرية و السودانية و المفوضية العليا للاجئين,تغيرت فية التحالفات نتيجة للمصالح السياسة و الأقتصادية و استخدم فية اللاجئين كورقة ضغط من الجميع ضد الجميع.علي كل حال, وفقا للشائعات كالعادة ,كان السبب الرئيسي لفض الأعتصام في هذا اليوم تحديدا هو "تطهير" المكان قبيل الأحتفالات برأس السنة في الحي الراقي الذي تلقي مقاهيه و مطاعمة و مشاربه و مراقصه الباهظة اقبالا بين سكان دول الخليج الفارسي.
عرفت بالحادثة في اليوم التالي و قررت مباشرة الأتجاة لمعاينة الموقع ,وجدت كل شيء و قد عاد لوضعة الأصلي و كأن أحدا لم يشغل هذا الحيز المكاني لشهور لأسابيع و أسابيع.الليلة يتكرر الأمر ذاتة في شارع القصر العيني .تمر بخيالي مشاهد من فيلم " كل شيء هادئ في الضفة الأخرى " المأخوذ عن رواية " أريك ماريّا ريمارك" الحزينة "كل شيء هاديء علي الجبهة الغربية.
اجتاز اشارة المرور الي ميدان التحرير فيقابلني ميدان التحرير بكل صخبة الي لا يصمت ليلا ولا نهارا و اعبت بجيبي بحثا عن مفاتيح سيارتي.ينتظرني الأن وقت عصيب لأجتياز الطريق الطويل المزدحم الي محل سكني.
No comments:
Post a Comment