Saturday, February 15, 2014

عيدي أمين: الرجل الذي أكل خصمه






نشر هذا المقال بموقع قل

قليلون في هذا العالم من استحقوا لقب "سفاح دموي". أغلبهم استخدم وسائل اعتيادية في القتل، لكن نخبة صغيرة جداً هي من أضافت بعداً جديداً لجرائمها، بُعد يستحق أن تقف عنده و تتأمل في مزاعم الجنس البشري عما  وصل إليه من "إنسانية". منهم من رمى خصومه السياسيين من الهليكوبتر في أعماق نهر بعد تقييدهم  بالحبال ومنهم من أذابهم في الحمض ومنهم من أعدمهم باستخدام قذائف الهاون. رجلنا اليوم واحد من هذا الطراز النادر، أستحق مقعده وسط أباطرة الدم بأكل خصومه. عزيزي القاريء، لا أستخدم هنا نوع من أنواع المجاز، فالرجل وفقاً لكثير من الروايات المتواترة، مارس طهي و أكل لحوم البشر عدة مرات إنتقاماً ممن رآهم خطرعلي البلاد و طلباً لقدرات سحرية وفقا لتقاليد أفريقية قديمة. موضوع هذا المقال هو الجنرال الدكتور الرئيس الأبدي للبلاد، بطل أوغندا لملاكمة الوزن الثقيل، الحاج عيدي أمين.

إذا تجاهلنا طريقته الفريدة في إنهاء خلافاته و أشحنا بوجهنا عن صور الجماجم في المقابر الجماعية و الجثث المصلوبة و المقطعة، و تناسينا حقيقة أن الرجل قتل حوالي 5% من إجمالي السكان، لا يسعنا إلا الإعتراف بتمتع "ديدي" بخصلة انعدمت عن سائر دكتاتوري العالم، خفة الظل!
 
في منفاه الأخير سأله مراسل النيوز ويك إن كان قد مارس عادة أكل لحوم البشر، كان الجواب عفوياً: كلا. ,انها مالحة جدًا!
 الحقيقة أن حس الفكاهة كان طبعاً أصيلاً في الرجل. أرسل مرة برقية لملكة بريطانيا يقول نصها: "عزيزتي إلز، إن كنتي تريدين مقابلة رجل حقيقي، تعالي الي عنتيبي"!
حتى في أحلك المواقف، عندما ساءت علاقاته بأمريكا بعد فرض العقوبات عليه في أواخر عهده، خرج علي الهواء و طلب من الرئيس الأمريكي منازلته رجل لرجل في مباراة ملاكمة بدلا من تجويع الشعب الأوغندي. في مرة أخري تهكم علي الرئيس التنزاني علي الهواء قائلاً: "إن ملامحه وسيمة جداً، لو كان أنثي لتزوجته!"، الطريف أن مزحته تلك كلفته منصبه.
تبنت تنزانيا المعارضة و سلحتها، و بعد أقل من سنة غادر الرئيس الأبدي أوغندا في طائرته مع زوجاته الأربعة و عشرين من أطفاله بالإضافة إلي ثلاثين من عشيقاته إلي ليبيا و هو يراقب القوات التنزانية و المتمردون يقتحمون عاصمته.

تحديد لحظة إشراق  دكتاتورنا لم تكن مسألة سهلة. بمراجعة  تاريخه السياسي الذي بدأ بتوليه قيادة القوات الجوية في منتصف الستينات حتى أواخر السعبينات، ثم تغريبته في ليبيا و العراق انتهاءاً بالسعودية،  ستكتشف الكثير من اللحظات المفصلية. من تنفيذه للإنقلاب العسكري لصالح رئيس الوزراء ضد الملك  إلي استباقه لخطة رئيسه السابق في الفتك به في يناير 71، مروراً بالمصالحة الوطنية التي تراجع عنها سريعاً و لحظة البدأ في المذابح العرقية و انتهاءاً بتهليل الجموع له لتأميمه أملاك نصف مليون أوغندي من أصول هندية و طردهم بدعوي الحفاظ علي هوية البلاد ثم  تخلصه من كبار وزراؤه و إغتياله للأسقف الأكبر. وأخيراً، وبعد ساعات  من التجول علي الإنترنت عثرت علي ضالتي في صورتي هذا المقال..

في الصورة الأولى نشاهد مجموعة من السفراء الغربيين ينحنون علي قدم واحدة أمام الفحل الأفريقي ويأدون اليمين البروتوكولي، أما الصورة الثانية فهي لمجموعة من الرجال البيض مجهولي الهوية يحملونه في هودج و هو منشغل بتحية الجماهير السوداء.
الصورتان تحتويان علي رمزية شديدة تلخص قصة أفريقيا و الرجل الأسود عندما يحكم بعد عقود من الإحتلال. في الصورة الثانية يبدو أمين كطفل عملاق قارة الطول، بهيجاً مبتهجاً، يحب الكاميرا و تحبه، سعيداً بكونه مركز الإهتمام، عاشقاً للفكاهة يمارس الحياة كأنها لعبة. لكن للصورة أيضا جانب خفي: ستشعر، بلا سبب ملموس، بعدم الراحة من طريقته في تحية الجمهور. شيء خفي يوحي بإحساس بالعظمة و يقين بإمتلاكه كل ما ومن حوله وبحقه في أن يفعل بهم ما يشاء.. أما الصورة الأولي فيبدو فيها متجهماً شديد البأس، لكنك ستلمح في جانب وجهه ابتسامة فخر يحاول إخفائها. فخر بقدرته علي إخضاع كل هؤلاء الـ"Gentlemen" البيض بسطوته. تستشف من وقفة معاونه التوتر و الحرص على عدم الخطأ.

في كل الأحوال تعطينا صوره إنطباعاً عن رجل مهووس بالـ "Role playing games أو لعبة التقمص"، و الأمر متروك لخيالكم بخصوص شطحاتة الفانتازية في السرير، شخص يمكن أن يتحول إلي طفل مدمر إذا دهس أحدهم الزر الخاطيء. إنسان لن تحب تركه لخياله بخصوص معاقبتك إن أحس بتقصيرك.

يظهر لنا من جودة الصورة أنها تعود إلي النصف الأول من السبعينات، وقتما كان الرئيس مازال شريكاً للموساد في تهريب الأسلحة الي جنوب السودان. عندما غضت المخابرات البريطانية طرفها عن نيته الإنقلابية. وقتها لم تجد الدول الغربية سبباً لإثارة المشاكل معه بسبب تأميمه بعض ممتلكات الأقليات و قيام قواته بالقليل من الإنتهاكات. الصفقة بسيطة: سنتركه يمارس عقده النفسية و ألعابه الصبيانية طالما سيضمن هذا استمرار المصالح العليا.

في لحظات مثل تلك يولد أعتى الطغاة. السلطة المطلقة على البلاد، الإمتلاك الحصري للسلاح الثقيل، الميديا الهادرة التي تغذي الأنا، المصالح الدولية التي تحتم إدارة الرأس عن الفساد أو إنتهاكات حقوق الأنسان، التأييد الشعبي الغير مشروط من جماهير تخلت عن كل حقوقها لأنها واقعة في غرام دكتاتور واقع في غرام نفسه. لحظات مثل تلك تبدو مرعبة و ثقيلة الوطأة، لأنك تعرف أنها ستقود الي مستقبل كارثي. لكنها أيضا لا تخلو من لمحة عبثية من الكوميديا السوداء، لمحة على المرء أن يلتقطها و يتعلق بها ليستطيع إبتلاع ما يحدث.

بعدما انطفأ نجمه عاش الحاج عيدي في فيلا مع زوجاته و أولاده حياة هادئة بجدة كأي سعودي ميسور الحال لأكثر من عقدان بفضل علاقته بالملك فيصل و من خلفه علي العرش. علاقة كان قوامها موقعه كحامي  للأقلية المسلمة في أوغندا ووعود متكررة بغزو إسرائيل. هناك مارس هوايتة في التقمص فلعب دور الورع الزاهد في الحياة.
بعد 7 سنوات من وفاتة وصل الي نفس المدينة أول دكتاتور أطاح به الربيع العربي.
أظن علي بلدية المدينة الساحلية تدشين حملة إعلانية جديدة يكون نصها:
       -
إلي أين يذهب الدكتاتور بعد إحالته للتقاعد؟
      - "
جدة طبعاً..جدة غير!".

Monday, February 10, 2014

جنة الشياطين- أو عم طارق النازي و أصدقاؤه(2 من 2)



نشر هذا المقال بموقع قل 

بعد انتهاء  الحرب العالمية الثانية,وجد كبار النازيين أنفسهم في مأزق.كان جليا أن محاسبتهم علي جرائمهم في فترة الحرب مسألة وقت. لهذا بدأ اثنان من المقربين لهتلر في ربط  شبكة تتكون من مجموعة من المنظمات(بعضها علني و بعضها سري)  المهتمة بإيجاد مخابيء أمنة للنازيين الضالعين في جرائم حرب اطلق عليها "أوديسا"(1) .أحدهما كان قد لعب دورا كبيرا في كبح محاولة التمرد التي تلت محاولة اغتيال الفورهر  الفاشلة أما الثاني فكان ضابط عمليات خاصة و يعتبر المخطط و المنفذ الرئيسي لعملية تحرير ديكتاتور ايطاليا "موسوليني" من سجنه.المصادفة جعلتهما يحملان اسم "أوتو" الشائع في وسط أوروبا.الأول تحمل عائلته لقب"ريمر"(2) و الأخر"سكورينتسي"(3) .

لم يكن أمام الثنائي اختيارات كثيرة.إما أمريكا الجنوبية ,القارة البكر البعيدة التي ظلت علي حياد أثناء الحرب و التي يتعاطف الكثير من أنظمتها الفاشية مع النازي أو الشرق الأوسط. هنا كانت النظم العسكرية الوليدة تكن إعجابا واضحا بانضباط وكفاءة مثيلاتها الألمانية. القضية الفلسطينية الناشئة خلقت من  اليهود و دولتهم العدو الأول لشعوب المنطقة.ضف إلي ذلك كله موجة عاتية من معاداة بريطانياوفرنسا و أمريكا رموز الاحتلال و الإمبريالية. كلمة نازي لم تكن تعني "مجرم حرب" بالنسبة للمواطن العربي.بمنطق "عدو عدوي هو حليفي",هتفت مظاهرات  المصريين لروميل التي سيهزم الإنجليز, بل و حوكم  "أنور السادات" , بتهمة التخابر مع الألمان أثناء فترة الاحتلال البريطاني.صعبت كل تلك العوامل السابقة علي الموساد والمخابرات الغربية القيام بعمليات  تصفية أو اختطاف واسعة مماثلة للعمليات التي  قاموا بها في أمريكا الجنوبية ,و بالتالي أصبح الشرق الأوسط جنة ثانية للشياطين أسلفنا في مقال سابق
بدأت الشبكة في استغلال علاقات مصر و ألمانيا العسكرية منذ فترة الملكية(4) بعد ثورة/أنقلاب 1952 تحولت فلول النازي إلي حليف استراتيجي. الهاجسان الأهم  للنظام  الجديد كانا الأمن الإعلام. فور توليه السلطة, استقدم  اللواء "محمد نجيب“سكورينتسي”ليصبح مستشارا أمنيا له.علي الفور بدأ الضابط في تجنيد العديد من ضباط الجستابو السابقين (5(.تشير المصادر(6) أن المهمة الأساسية للخبراء الجدد كانت نقل تكنيكات الاستجواب و التعذيب التي اشتهرت بها أجهزة الأمن الألمانية إلي زملائهم المصريين.شارك هؤلاء الرجال في استجواب المعارضين المصريين بنفسهم في بعض الأحيان,و ليست صدفة أن المرة الأولي التي ضلع فيها هؤلاء الرجال في تحقيقات كانت مع خمسة من الشيوعيين و اليهود!(7)

بفضل الحاج أمين الحسيني, وجد نجيب ضالته الثانية.في 1953 وصل "يوهان فون ليرز"(8)  من الأرجنتين بتوصية شخصية من  صديقه مفتي القدس(9).الشيخ  عمل لسنوات في برلين مع الحزب الحاكم و حافظ علي علاقة طيبة بكل قياداته و"فون ليرز" كان واحدا منهم. فهو لعقدين كان مسئولا  مع "جوبلز" علي بلورة  خطاب الحزب الرسمي واشتهر بتحريضه ضد العرق السامي في  كل كتبه  (أشهرها"اليهود يحدقون بك"). لن تحتاج إلي كثير من الذكاء لتعرف المنصب الذي تم تعيينه عليه.نعم,المستشار الإعلامي للرئاسة....

.بعد إزاحة نجيب من السلطة, نحا جمال عبد الناصر نحوه.طلب من الثنائي السابق الذكر التمركز في القاهرة و جلب المزيد من أصدقائهم .توسعت أعمال الرجلان و أثريا من توريد السلاح إلي ثوار الجزائر و أصبحا "مقاولا أنفار"لتدريب مخابرات و جيوش أنظمة سورية و مصر و العراق و منظمة فتح و لاحقا ليبيا و الجزائر.

يعرف الجميع أن عصر ناصر كان عصرا للبروباجندا بامتياز.عصرلعب فيه مثقفنا الأري("فون ليرز")دورا أساسيا.رسم الخط العام لهيئة الإرشاد القومي و إذاعة صوت العرب بالإضافة إلي ترأسه مركز الدراسات الصهيونية كما  أشرف علي ترجمة  "شوقي " شقيق الرئيس المصري ل "بروتوكولات حكماء صهيون" المزعومة .

حولت ماكينات الدعاية الرسمية الهجوم الثلاثي علي بورسعيد الذي أعقب إعلان تأميم القناة إلي انتصار للجيش و المقاومة الشعبية وارتفعت شعبية الرئيس الشاب إلي معدلات قياسية! بعد ما اطمئن ناصر علي فاعلية كفاءة ماكينة الميديا و شرطته السرية, شرع في استكمال أحلامه و قرر انتداب الموجة الثانية من الخبراء. دشنت تلك المرحلة  تصميم و بناء استاد ناصر الدولي (في حي مدينة ناصر حديث الإنشاء!) علي يد نفس الرجل الذي صمم لهتلر استاد برلين الأوليمبي(9) ثم كللت ببناء مصنع 333 الحربي في حلوان و انتداب 250خبيرا أوروبيا في  الصواريخ و الإلكترونيات للعمل علي ما سمي ببرنامج الصواريخ المصري(10).في هذا الوقت عاد عرابا الإتفاق إلي بلدهما حيث عقدا صفقة مع الموساد لتسريب أسماء و محال إقامة العلماء الألمان مقابل تخفيف  قبضة صيادي النازي علي زملائهما الهاربين.

بناءا علي تلك  المعلومات, قرر الموساد بدء "عملية داموكلس" (11) في نوفمبر 1962.كعادته أرسل طردا مفخخا إلي مكتب مدير المشروع(12), و كعادة العرب , تم فتحه بدون أي تدابير  احترازية فانفجر في وجه سكرتيرته!! بعد 3 طرود أخري قتلت 5 من العمال المصريين و تهديدات طالت عائلات العلماء, قرر أغلبهم العودة إلي بلادهم و غلق باب التعامل مع النظام المصري  الذي لم يستطع حمايتهم داخل أراضيه ! الباقي انسحب بعد إغلاق المشروع نتيجة حملة عالمية شنتها الدبلوماسية الإسرائيلية ابتزت فيها ألمانيا الغربية و اتهمت حكومتها بال"طرمخة" علي اختباء و تعاون النازي مع نظام ناصر.إثر ذلك قرر المصريون استكمال العمل بأنفسهم. كان المنتج النهائي  " مسخرة"بدائية الصنع لا تناسب مع الثروة التي تم إنفاقها.مسخرة استعملتها الصحف المحلية لاستكمال صورة الجيش الذي لا يهزم و التي صدرتها محليا و صدقها الجميع.




بحلول منتصف الستينات ,استطاع العديد من "رجال الظل"  التوصل لتسويات مع حكومة ألمانيا الغربية و أجهزة المخابرات تمنحهم حق العودة لبلادهم بلا ملاحقة قانونية.هناك افتتحوا  شركات لسمسرة الأسلحة و قدموا خدمات استخباراتية كعملاء مزدوجين .لكنهم ظلوا علي ولائهم لشبكة العلاقات القديمة.الأكثر تطرفا منهم  ك" اوتو ريمر" أسسوا لحركات النازية الجديدة. أما "نجوم الشباك" فطابت لهم  الإقامة هنا"كيوهان" الذي اعتنق الإسلام (غالبا لكسب تعاطف العامة) و توفي في منزله بوسط القاهرة سنة 1965 تحت اسم عمر أمين.
تؤكد بعض المصادر المتحيزة أن بعض هؤلاء الباقين قتلوا علي الجبهة المصرية أثناء القصف الإسرائيلي لمعسكرات الجيش المصري في هزيمة 67,و لكننا لم نعثر علي دليل لذلك في أي مصادر محايدة. في كل الأحوال ,يظل الأمر كله مليئا بالتناقضات العبثية  التي فرضتها الظروف و لعبة السياسة الدولية .فالأوروبيون  اضطروا إلي التعاون مع العرب, أحد الأعراق الدونية حسب الإيمان النازي.أما النظم العربية التي قدمت نفسها كأنظمة تحررية  إنسانية معادية للإمبريالية و الظلم , فاستعانت بجزارين لحكم مواطنيها و تعمية أعينهم.و هكذا الحياة !!
(1)   
(2)                                   
(3)     
(4)       
                                                                                                                            https://www.goodreads.com/book/show/6076459
(5)       
                                                                                                                            http://www.fantompowa.net/Flame/nazis_postwar_egypt.htm
(6)      
الجدير بالذكر أن كتاب A History of the Egyptian Intelligence Service: Mukhabarat, 1910-2009 يؤكد علي احتجاز المخابرات المصرية بعض هؤلاء "الخبراء" في استراحات علي طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي مجبرة إياهم علي "تدوين" مذكرات عن "أساليب عملهم" مقابل مبالغ زهيدة
(7)                                     
(8)         
                                                                                                                          http://en.wikipedia.org/wiki/Johann_von_Leers
(9)      
(10)    

(11)      
                                                                                                                          http://en.wikipedia.org/wiki/Operation_Damocles
(12)   


Wednesday, February 5, 2014

جنة الشياطين-أو عم طارق النازي وأصدقاؤه(1 من 2)



نشر هذا المقال بموقع قل

في  العام  2005، بدأت أولي اهتماما خاصا بالتجارب الشريرة التي كانت تجري على المساجين السياسيين والأقليات العرقية المضطهدة  في معسكرات وسجون الفورهر خلال الحرب العالمية الثانية. قائمة الأسماء امتلأت بضباط وأطباء من قوات الـSSالمسئولة عن المعسكرات والمعروفة بولائها غير المشروط لهتلر وبوحشيتها في التعامل مع المعارضة. الاسمان الأبرز كانا "يوسف مينجل"(1)و"اريبرت هايم"(2) الملقب بـDr.Death، اللذان قاما بتجارب مخبولة ومريعة تخالف أبسط قواعد الإنسانية لا داعي لسرد تفاصيلها  (أبسطها إجراء عمليات جراحية بدون تخدير) وتسببت في وفاة المئات من اليهود والأوروبيين الشرقيين والغجر.

قادني فضولي لتتبع مصائر الجزاران، الأول هرب إلى أمريكا الجنوبية -جنة النازيين الفارين - وعاش بها حتى وفاته عام 1979، حيث مارس الطب وأشياء أخرى. هناك، يشاع عنه حكايات ترقى للأساطير عن استمراره في تجاربه الغامضة التي أفضت إلى أن تمتلئ البلدة الصغيرة -التي عاش بها- بالتوائم.

المفاجأة كانت أن الثاني اختبأ بمصر وعاش بها بسلام لمدة 40 عاما. الرواية الأولى التي سمعتها تفيد بأن الطبيب الهارب حمل  اسم " طارق فهيم حسين" أو "عم طارق" حسب تسمية شباب حي "العتبة" القاهري، وكان يسكن أحد فنادقه الرخيصة. بالطبع أحبته الناس كلها بسبب تحوله للإسلام (والله وحدة أعلم بحقيقة إيمانه) وعاش وسطهم بسلام، حتى توفي بالسرطان عام 1992، ولم تكتشف هويته إلا بعد مراجعة أوراقه الخاصة التي وجدوها في غرفته بعد وفاته.
بعد قليل من البحث والزيارات الميدانية، اكتشفت أبعادا أخرى للقصة، مبدئيا لا يوجد أي دليل رسمي على وفاة "جزار ماوتهاوزن"! أطفال المنطقة -الذين أصبحوا رجالا الآن- يتذكرون عنه حكايات غائمة؛ المسن الوحيد الذي قبل أن يتحدث معي نصحني بزيارة القاهرة الإسلامية، لصداقة رجلنا بالعديد من أصحاب ورش المهن اليدوية. بعدها بقليل، أخبرتني صديقة أنها سمعت قصة عن دفنه في قبر صغير داخل فناء أحد مصانع الزجاج المملوك لأحد أصدقائه قرب "باب الفتوح" بالقاهرة الفاطمية، حاولنا الوصول إليه وتكللت محاولتنا-بالطبع- بالفشل. مع تطور محتوى الإنترنت، استطعت الوصول إلى المزيد من المعلومات وعرفت أن الرجل مازال إلى اليوم موضع جدل لا ينتهي، وأن أحدا لم يستطع القطع بوفاته أو تاريخها أو حتى أن يري جثته أو موقع دفنها، بل إن هناك نظرية يؤيدها الكثير من الباحثين، تقول بأنه أحس باقتراب صيادي النازي منه، فاستغل حالة الارتباك التي سببها زلزال 1992 وهرب إلى دولة أخرى تحت اسم جديد.

لكن المفاجأة الحقيقة التي اكتشفتها لاحقا، هي أن الشرق الأوسط كان جنة ثانية للشياطين. في برنامج وثائقي عن السفاح قال ابنه: "أبي كان يعرف أن هناك 1000 إلى 2000 نازي يعيشون في مصر, لكنه فضل أن يبقى بعيدا عنهم" هالني الرقم, ومنذئذ تحول البحث في هذا الشأن إلى هواية أمارسها في أوقات فراغي؛ هواية جعلتني اكتشفت قوائم طويلة من النازيين الذين عاشوا في مصر وبلاد الشام، وعمل أغلبهما كـ"مستشارين" بالإذاعة والمخابرات والشرطة وغيرها من الهيئات. استغرق الأمر كثيرا من الوقت حتى استطعت رسم صورة تقريبية للمشهد، خلال تلك الرحلة اضطررت لتجاهل الكثير من المعلومات التي نشرت حصريا على مواقع غير ذات مصداقية واكتفيت بما تم تواتره في أكثر من مصدر أو ما تم نشره في المواقع الموثوق بها.

هؤلاء النازيين الذي قدموا إلى بلادنا، يمكن تقسيمهم إلى نوعين رئيسيين: الأول هم الهاربين من مطاردة ضحايا جرائمهم؛ بطبيعة الحال فضلوا العيش على هامش الحياة السياسية إلا إذا تم كشفهم من قبل السلطات المحلية، وعندئذ، عادة ما يبدأ شكل من أشكال التعاون أو البيزنس الذي قد يكون جبرا أو طوعا بين الطرفين.

ينتمي لى الفريق سابق الذكر كل من طبيبنا، الذي توفي في سلام دون أن يكتشفه أحد ويشاركة المقعد طبيب أخر يدعى "هاينز ايزله"(5) هرب من ميونخ عام 1958 قبيل القبض عليه إلى المعادي، حيث أكمل مسيرتة الطبية إلى أن وافته المنية عام النكسة. وجود الدكتور "ايزله" بمصر كان معروفا للموساد, فحاول اغتيالة بطرد مفخخ انفجر في ساعي البريد! الموساد حاول أيضا اصطياد "الويس برونر"(3) اليد اليمنى لـ "أدولف ايخمان" والمختبئ في سوريا. محاولتي الاغتيال(4) كلفت الرجل الخطير عينه اليسري. "برونر" عمل بمصر كسمسار  للأسلحة لفترة وجيزة، أعقبها استقراه بدمشق تحت اسم "دكتور جورج فيشر" حيث عمل بعد كشفه من قبل المخابرات السورية "مستشارا" للحكومة ويعتقد أن عملة الحقيقي كان تدريب المخابرات السورية على أساليب التعذيب. بمرور الوقت حظي الرجل بثقة وصداقة أسماء بارزة في أجهزة الأمن السورية وعاش بشارع "جورج حداد" بضاحية "أبو رمانة" الراقية، ظل "الويس" يشاهَد بالعاصمة حتى العام 2001. كان الرجل يتمتع بوافرالحظ, ففي عام 1989 أنقذه انهيار حائط برلين من الترحيل إلى ألمانيا إثر صفقة بين ألمانيا الشرقية ونظام حافظ الأسد. قبيل تلك الحادثة,التقى في منزله صحافيا من مواطنيه وأعطاه مقابلة العمر, حيث تحدث لساعات وأكد على أن اليهود استحقوا ما حدث لهم في غرف الغاز وأنه لا يشعر بذرة ندم علي ما فعل، بل وأكد أنه سيفعل الشيء نفسه إن عاد به الزمن.

النوع الثاني من النازيين المستوطنين فهم "خبراء" تم استقدامهم من بلادهم وتعيينهم رسميا من قبل أجهزة الدولة، لتقديم خدمات استشارية أو تدريبية طويلة أو قصيرة الأمد في قطاعات الأمن والإعلام والصناعات الثقيلة، وهو أمر يستحق مقالة منفصلة.
لقراءة الجزء الثاني,برجاء الضغط هنا
(1)                                                                                                                                 http://en.wikipedia.org/wiki/Josef_Mengele
(2)                                                                                                                                 http://en.wikipedia.org/wiki/Aribert_Heim
(3)                                                                                                                                 http://en.wikipedia.org/wiki/Alois_Brunner
(4)                                                                                                                                 http://www.aawsat.com/details.asp?issueno=8070&article=28336#.Uup2QPl_te8
(5)                                                                                                                                 http://www.egy.com/maadi/95-01-28.php